الدعاء أيضاً. وأمّا قوله تعالى: {فاستقيما} فمعناه اثبتا على الدعوة والرسالة والزيادة في الزام الحجة فقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً فلا تستعجلا. قال ابن جريج: إنّ فرعون لبث بعد هذا الدعاء أربعين سنة. {ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} أي: الجاهلين الذين يظنون أنه متى كان الدعاء مجاباً كان المقصود حاصلاً في الحال فربما أجاب الله تعالى دعاء الإنسان في مطلوبه إلا أنه إنما ربما يوصله إليه في وقته المقدور، والاستعجال لا يصدر إلا من الجهال، وهذا كما قال تعالى لنوح عليه الصلاة والسلام: {إني أعظك أن تكون من الجاهلين} (هود، 46) وهذا النهي لا يدل على أن ذلك قد صدر من موسى عليه السلام، كما أنّ قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (الزمر، 65) لا يدل على صدور الشرك منه صلى الله عليه وسلم وقرأ ابن ذكوان بتخفيف النون، والباقون بتشديدها؛ لأنّ نون التوكيد تثقل وتخفف. ولما أجاب الله تعالى دعاءهما أمر بني اسرائيل وكانوا ستمائة ألف بالخروج من مصر في الوقت المعلوم، ويسر لهم أسبابه وفرعون كان غافلاً عن ذلك، فلما سمع أنهم خرجوا وعزموا على مفارقة مملكته خرج في عقبهم كما قال تعالى:
{وجاوزنا} أي: قطعنا {ببني اسرائيل} أي: عَبَدَنَا المخلص لنا {البحر} حتى بلغوا الشط حافظين لهم {فأتبعهم فرعون وجنوده} أي: لحقهم وأدركهم يقال: تبعه وأتبعه إذا أدركه ولحقه {بغياً وعدواً} أي: ظلماً وعدواناً. وقيل: بغياً في القول وعدواً في الفعل، فلما أدركهم فرعون قالوا لموسى: أين المخلص والمخرج، البحر أمامنا وفرعون وراءنا، قد كنا نلقى من فرعون البلاء العظيم، فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق لموسى وقومه فكان كل فرق كالطود العظيم، وكشف عنه وجه الأرض، وانتشر لهم البحر، فلما وصل فرعون إلى البحر هابوا دخوله، وكان فرعون على حصان أدهم وكان معه في عسكره ثمانمائة ألف حصان على لون حصانه، وميكائيل يسوقهم حتى لم يشذ منهم أحد، فلما خرج آخر بني اسرائيل من البحر تقدّمهم جبريل على فرس وخاض البحر، فلما وجد الحصان ريح الأنثى لم يملك فرعون من أمره شيئاً، فنزل البحر وأتبعه جنوده، حتى إذا كملوا جميعاً في البحر وهمّ أوّلهم بالخروج التطم البحر عليهم، فلما أتاه الغرق أتى بكلمة الإخلاص كما قال تعالى: {حتى إذا أدركه الغرق} أي: لحقه {قال آمنت أنه} أي: بأنه {لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل وأنا من المسلمين} . فإن قيل: إنه آمن ثلاث مرات أولها قوله: آمنت. وثانيها: قوله لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل. وثالثها: قوله وأنا من المسلمين. فما السبب في عدم القبول؟ أجاب: العلماء عن ذلك بأجوبة منها: أنه إنما آمن عند نزول العذاب، والإيمان والتوبة عند معاينة الملائكة والعذاب غير مقبول، ويدلّ عليه قوله تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} (غافر، 85) ودس جبريل في فيه من حما البحر مخافة أن تناله الرحمة وقال له {آلآن} تؤمن {وقد عصيت قبل} وضيعت التوبة في وقتها وآثرت دنياك الفانية على الآخرة الباقية {وكنت من المفسدين} بضلالك وإضلالك عن الإيمان والتوبة حتى أغلق بابها بحضور الموت
ومعاينة الملائكة، وإنما قال له: وكنت من المفسدين في مقابلة قوله وأنا من المسلمين، ومنها أنّ فرعون إنما قال هذه الكلمة ليتوصل بها إلى دفع ما نزل به من البلية الحاضرة، ولم يكن قصده الإقرار بوحدانية