ثم قالوا لموسى وهارون {وتكون لكما الكبرياء} أي: الملك والعز {في الأرض} أي: أرض مصر. قال الزجاج: سمى الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا، وأيضاً الملوك موصوفون بالكبر، ولهذا وصف ابن الرقيات مصعباً في قوله:
*ملكه ملك رأفة ليس فيه ... جبروت منه ولا كبرياء
ينفي ما عليه الملوك من ذلك، ويجوز أن يقصدوا بذلك ذمهما، وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا، كما قال القبطي لموسى عليه السلام: {إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض} (القصص، 19) . {وما نحن لكما بمؤمنين} أي: بمصدقين فيما جئتما به. {وقال فرعون} لقومه إرادة للمناظرة لما أتى به موسى عليه السلام {ائتوني بكل ساحر عليم} أي: بالغ في علم السحر لئلا يفوت شيء من السحر بتأخر البعض. وقرأ حمزة والكسائي بغير ألف بين السين والحاء، وتشديد الحاء مفتوحة وألف بعدها بصيغة فعال دالّ على زيادة قلق فرعون، والباقون بألف بعد السين وتخفيف الحاء مكسورة ولا ألف بعدها.
{فلما جاء السحرة} أي: كل من في أرض مصر، منهم قالوا لموسى: إمّا أن تلقي وإمّا أن نكون نحن الملقين {قال لهم موسى ألقوا} جميع {ما أنتم ملقون} فإن قيل: كيف أمرهم بالكفر والسحر والأمر بالكفر كفر؟ أجيب: بأنه إنما أمرهم بإلقاء ما معهم من الحبال والعصيّ التي معهم ليظهر للخلق، إنما أتوا به عمل فاسد وسعي باطل لا على طريق أنه عليه السلام أمرهم بالسحر.
{فلما ألقوا} مامعهم من الحبال والعصيّ وخيلوا لسحرهم أعين الناس أنها تسعى {قال موسى} منكرا عليهم {ماجئتم به السحر} قرأه أبو عمرو بهمزتين الأولى همزة الاستفهام فهي مفتوحة والثانية همزة وصل، وله فيها وجهان: التسهيل والبدل، فما استفهامية مبتدأ. وجئتم به خبرها، والسحر بدل منه، وقرأ الباقون بهمزة وصل فتسقط في الوصل، أي: الذي جئتم به هو السحر لا ما سماه فرعون وقومه سحراً، ثم أخبره موسى عليه السلام بقوله: {إن الله سيبطله} أي: يهلكه ويظهر فضيحة صاحبه {إن الله لا يصلح عمل المفسدين} أي: لا يثبته ولا يقوّيه. وقول البيضاوي: وفيه دليل على أن السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له محمول على ما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية وإلا فله حقيقة فهو حق عند أهل السنة، وهو علم بكيفية استعدادات تقتدر بها النفوس البشرية على ظهور التأثير في عالم العناصر {ويحق} أي: يثبت ويظهر {الله الحق بكلماته} أي: بقضائه ووعده الصادق لموسى عليه السلام. وقد أخبر الله تعالى في غير هذه السورة أنه كيف أبطل ذلك السحر، وذلك بسبب أن ذلك الثعبان قد تلقف تلك الحبال والعصيّ {ولو كره المجرمون} . ولما بين تعالى أن قوم موسى شاهدوا هذه المعجزات ومع ذلك لم يؤمن منهم إلا القليل كما قال تعالى:
{فما آمن لموسى إلا ذريّة من قومه} وإنما ذكر تعالى ذلك تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان يغتمّ بسبب إعراض القوم عنه واستمرارهم على الكفر بين تعالى أنّ له في هذا الباب بسائر الأنبياء أسوة؛ لأنّ الذي ظهر من موسى عليه السلام من المعجزات كان أمراً عظيماً، ومع ذلك فما آمن له إلا ذرية من قومه، والذرية اسم يقع على القليل، من القوم. قال ابن عباس: الذرية القليل، والهاء التي في قومه