أنه كما لم يحصل لذلك الزرع عاقبة محمودة فكذلك المغتر بالدنيا المحب لها لا يحصل له عاقبة تحمد، مع أنَّ المنافع التي تحصل فيها مخلوطة بالمضار والمتاعب، فإنَّ سعادة الدنيا غير خالصة من الآفات، بل هي ممزوجة بالبليات، والاستقراء يدل عليه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم «من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق. فقيل: يا رسول الله، وما هو؟ قال: سرور يوم بتمامه» . الثالث: أن مالك ذلك البستان لما عمره بإتعاب النفس، وكد الروح، وعلق قلبه على الانتفاع به، فإذا حصل ذلك السبب المهلك صار العناء الشديد الذي تحمّله في الماضي سبباً لحصول الشقاء الشديد له في المستقبل، وهو ما يحصل له في قلبه من الحسرات، فكذا حال من وضع قلبه على الدنيا، وأتعب نفسه في تحصيلها، فإذا مات وفاته كل ما فات صار العناء الذي تحمله في تحصيل أسباب الدنيا سبباً لحصول الشقاء العظيم له في الآخرة. {كذلك} أي: مثل هذا التفصيل الذي ذكرناه {نفصل الآيات} أي: نبينها {لقوم يتفكرون} لأنهم المنتفعون بها، ولما نفّر تعالى الغافلين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق رغبّهم في الآخرة بقوله تعالى:
{والله يدعو} أي: يعلق دعاءه على سبيل التجدّد والاستمرار بالمدعوين {إلى دار السلام} . قال قتادة: السلام هو الله، وداره الجنة، وسمي سبحانه وتعالى بالسلام؛ لأنه واجب الوجود لذاته، فقد سلم من الفناء والتغير، وسلم من احتياجه في ذاته وصفاته، ومن الافتقار إلى الغير، وهذه الصفة ليست إلا له سبحانه كما قال تعالى: {والله الغني وأنتم الفقراء} (محمد، 38)
وقال تعالى: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله} (فاطر، 15)
. وقيل: السلام بمعنى السلامة. وقيل: المراد بالسلام الجنة، سميت الجنة دار السلام؛ لأنّ أهلها يحيِّي بعضهم بعضاً بالسلام، والملائكة تسلم عليهم. قال الله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم} (الرعد، 32، 24)
ومن كمال رحمته وجوده وكرمه على عباده أن دعاهم إلى الجنة التي هي دار السلام، وفيه دليل على أنّ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؛ لأنّ العظيم لا يدعو إلا إلى عظيم، ولا يصف إلا عظيماً. وقد وصف الله تعالى الجنة في آيات كثيرة من كتابه. وعن جابر قال: جاءت ملائكة إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقالوا: إنّ صاحبكم هذا مثله كمثل رجل بنى داراً، وجعل فيها مائدة، وبعث داعياً فمن أجب الداعي دخل الدار، وأكل من المائدة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار، ولم يأكل من المائدة، والدار الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم {و} الله {يهدي من يشاء} من عباده بما يخلق في قلبه من الهداية {إلى صرط مستقيم} وهو دين الإسلام، عمّ سبحانه وتعالى بالدعوة أوّلا إظهاراً للحجة، وخص بالهداية ثانياً إظهاراً للقدرة؛ لأنَّ الحكم له في خلقه. وقال الجنيد: الدعوة عامة، والهداية خاصة، بل الهداية عامة والصحبة خاصة، بل الصحبة عامة والاتصال خاص. وقيل: يدعو بالآيات، ويهدي للحقائق والمعارف. وقيل: الدعوة لله والهداية من الله. وقال بعضهم: لا تنفع الدعوة لمن لم يسبق له من الله الهداية.
{للذين أحسنوا} أي: بالإيمان {الحسنى} وهي الجنة {وزيادة} وهي النظر إليه تعالى في الآخرة، كما في الحديث الصحيح: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا أن يا أهل الجنة فيكشف الحجاب فينظرون إليه فو الله ما أعطاهم الله شيئاً هو أحب إليهم منه» . والزمخشري في «كشافه» قال في هذا: وزعمت المشبهة والمجبرة؛ لأنّ المعتزلة ينكرون