في ضمائرهم ولا شك أنّ اللسان العربي مختص بأنواع من الفصاحة والجزالة لا توجد في سائر الألسنة.
قال الرازي: ورأيت في بعض الكتب عن بعض الحكماء أنه قال: حكمة الروم في أدمغتهم وذلك لأنهم يقدرون على التركيبات العجيبة، وحكمة الهند في أوهامهم، وحكمة اليونان في أفئدتهم وذلك لكثرة ما لهم من المباحث العقلية، وحكمة العرب في ألسنتهم وذلك لحلاوة ألسنتهم وعذوبة عباراتهم ثم حكم الله تعالى على الأعراب بحكم آخر بقوله تعالى: {وأجدر} أي: أحق وأولى {أن} أي: بأن {لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} من الأحكام والشرائع فرائضها وسننها {وا عليم} بما في قلوب عباده {حكيم} فيما فرض من فرائضه وأحكامه.
{ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق} في سبيل الله تعالى {مغرماً} أي: غرامة وخسراناً والغرامة ما ينفقه الرجل وليس يلزمه لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء لا لوجه الله تعالى وابتغاء المثوبة عنده وهم أسد وغطفان {ويتربص} أي: ينتظر {بكم الدوائر} أي: دوائر الزمان أن ينقلب عليكم فيموت النبيّ صلى الله عليه وسلم ويظهر المشركون قال الله تعالى: {عليهم دائرة السوء} دعاء عليهم معترض، قال التفتازاني: بين كلامين لا في أثناء كلام ولا في آخره دعا عليهم بنحو ما دعوا به قال الله تعالى: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم} (المائدة، 64)
أي: يدور عليهم البلاء والحزن ولا يرون في محمد صلى الله عليه وسلم ودينه وأصحابه إلا ما يسوءهم ويكيدهم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم السين والباقون بالفتح مصدر أضيف إليه للمبالغة كقولك: رجل سوء في نقيض قولك: رجل صدق {وا سميع} لأقوالهم {عليم} بما تخفي ضمائرهم ولما بين سبحانه وتعالى أنه حصل في الأعراب من يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغرماً بين أن فيهم قوماً مؤمنين صالحين مجاهدين يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغنماً بقوله تعالى: {ومن الأعراب من يؤمن با واليوم الآخر} كبعض جهينة ومزينة فوصفهم الله تعالى بوصفين: كونهم مؤمنين بالله واليوم الآخر والمقصود التنبيه على أنه لا بدّ في جميع الطاعات من تقديم الإيمان وفي الجهاد أيضاً كذلك والثاني: ما ذكره بقوله تعالى: {ويتخذ ما ينفق قربات} جمع قربة أي: يقربه {عند الله} الذي لا أشرف من القرب عنده {و} وسيلة إلى {صلوات} أي: دعوات {الرسول} صلى الله عليه وسلم لأنه كان يدعو للمصدقين عنده بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله صلى الله عليه وسلم «اللهم صل على آل أوفى» قال تعالى: {وصل عليهم} أي: ادع لهم ولما كان ما ينفق سبباً لذلك قيل: يتخذ ما ينفق قربات وصلوات الرسول {ألا إنها} أي: نفقاتهم {قربة لهم} عند الله وهذا شهادة من الله تعالى للمؤمن المتصدّق بصحة ما اعتقد من كون نفقاته قربات عند الله وصلوات الرسول وقد أكد تعالى هذه الشهادة بحرف التنبيه وهو قوله تعالى: {ألا} وبحرف التحقيق وهو قوله تعالى: {إنها} ثم زاد في التأكيد فقال تعالى: {سيدخلهم الله في رحمته} فإن دخول السين توجب مزيد التأكيد وهذه النعمة هي أقصى مرادهم. وقرأ ورش: قربة برفع الراء والباقون بالسكون والأصل هو الضم والإسكان تخفيف {إنّ الله غفور} أي: بليغ الستر لقبائح من تاب {رحيم} بهم.
ولما ذكر تعالى فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله وما أعدّ لهم من الثواب بين تعالى أن فوق منزلتهم منازل أعلى وأعظم منها