فلا بدّ من التأويل وهو من وجهين: الأوّل: معناه أنهم تركوا أمره حتى صار بمنزلة المنسي فجازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته وجاء هذا على مزاوجة الكلام كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى، 40)
الثاني: النسيان ضدّ الذكر فلما تركوا ذكر الله بالعبادة والثناء على الله ترك الله تعالى ذكرهم بالرحمة والإحسان وإنما حسن جعل النسيان كناية عن ترك الذكر لأنّ من نسي شيئاً لم يذكره فجعل اسم الملزوم كناية عن اللازم {إنّ المنافقين هم الفاسقون} أي: الكاملون في الفسق الذي هو التمرّد في الكفر والانسلاخ عن كل خير وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله تعالى به المنافقين حتى بالغ في ذمهم وقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يقول كرهت كسلت لأنّ المنافقين وصفوا بالكسل في قوله تعالى: {إلا وهم كسالى فما ظنك بالفسق} ، ولما بين سبحانه وتعالى كثيراً من أحوال المنافقين والمنافقات وأنه نسيهم أي: جازاهم على تركهم التمسك بطاعة الله تعالى أكد هذا الوعيد وضم المنافقين إلى الكفار فيه بقوله تعالى:
{وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار} أي: المجاهرين في عنادهم يقال وعده بالخير وعدا وأوعده بالشر وعيداً {نار جهنم خالدين فيها} أي: مقدرين الخلود ولا شك أنّ النار المخلدة من أعظم العقوبات {هي حسبهم} أي: كافيتهم في العذاب {ولعنهم الله} أي: أبعدهم مع من أبعدهم من رحمته، ولما كان الخلود قد يتجوّز به عن الزمن الطويل فيكون بعده فرج نفى ذلك بقوله تعالى: {ولهم عذاب مقيم} أي: دائم لا ينقطع وقوله تعالى:
{كالذين من قبلكم} رجوع من الغيبة إلى خطاب الحضور والكاف في كالذين للتشبيه والمعنى فعلتم كأفعال الذين من قبلكم شبه فعل المنافقين بفعل الكافرين الذين كانوا من قبلهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض الأيدي عن فعل الخير والطاعة ثم إنه تعالى وصف الكفار بأنهم كانوا أشدّ من هؤلاء المنافقين قوّة وأكثر أموالاً وأولاداً بقوله تعالى: {كانوا أشدّ منكم قوّة} أي: بطشاً ومنعاً {وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم} أي: تمتعوا بنصيبهم من الدنيا باتباع الشهوات ورضوا بها عوضاً عن الآخرة والخلاق: النصيب، وهو ما خلق للإنسان وقدّر له من خير وشر كما يقال: قسم له. {فاستمتعتم بخلاقكم} أي: فتمتعتم أيها المنافقون والكافرون بخلاقكم فهو خطاب للحاضرين {كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم} ذم الأوّلين باستمتاعهم بما أوتوا من حظوظ الدنيا العاجلة وحرمانهم من سعادة الآخرة بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ العاجلة تمهيداً لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء أثرهم، ولما بين تعالى مشابهة هؤلاء المنافقين لأولئك المتقدّمين في طلب الدنيا وفي الإعراض عن طلب الآخرة بين حصول المشابهة بين الفريقين في تكذيب الأنبياء وفي المكر والخديعة بقوله تعالى: {وخضتم} أي: ودخلتم في الباطل والكذب على الله تعالى وتكذيب رسله والاستهزاء بالمؤمنين {كالذي خاضوا} أي: كالذين خاضوا أو كالفوج الذي خاضوا هذا كله إذا جعلنا الذي موصولاً اسمياً فإن جعلناه موصولاً حرفياً أول مع صلته بمصدر أي كخوضهم والفوج الجماعة.
فإن قيل: أيّ فائدة في قوله تعالى: {فاستمتعوا بخلاقهم} وقوله تعالى: {كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم} مغن عنه كما أغنى