أعلم أنّ الكفرة كانوا متخذين أرباباً فبين الله تعالى لهم أنّ المستحق للربوبية واحد وهو الله تعالى لأنه الذي له الخلق والأمر فإنه تعالى خلق العالم على ترتيب قويم وتدبير حكيم فأبدع الأفلاك ثم زينها بالكواكب كما أشار إليه بقوله تعالى: {فقضاهنّ سبع سموات في يومين} وعمد إلى إيجاد الأجرام السفلية فخلق جسماً قابلاً للصور المتبدلة والهيآت المختلفة، ثم قسمها بصور نوعية متضادّة الآثار والأفعال وأشار إليه بقوله تعالى: {خلق الأرض في يومين} (فصلت، 9)
أي: ما في جهة السفل في يومين ثم أنشأ أنواع المواليد الثلاثة أي: وهي النبات والحيوان والمعدن بتركيب موادها أوّلاً وتصويرها ثانياً كما قال تعالى بعد قوله: {خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام} (فصلت، 10)
أي: مع اليومين الأوّلين اللذين خلق فيهما السموات لقوله تعالى في سورة السجدة: {الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام} ثم لما ثم له عالم الملك عمد إلى تدبيره كالملك الجالس على عرشه لتدبير المملكة فدبر الأمر من السماء إلى الأرض بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب وتكوير الليالي والأيام ثم صرّح بما هو نتيجة ذلك فقال: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} ، ثم أمرهم أن يدعوه متذللين مخلصين بقوله تعالى:
{ادعوا ربكم} لأنّ الدعاء هو السؤال والطلب وهو نوع من أنواع العبادة لأنّ الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى ذلك المطلوب وهو عاجز عن تحصيله وعرف أنّ ربه سبحانه وتعالى يسمع الدعاء ويعلم حاجته وهو قادر على إيصالها إلى الداعي فعند ذلك يعرف العبد نفسه بالعجز والنقص ويعرف ربه بالقدرة والكمال وهو المراد من قوله تعالى: {تضرّعاً} أي: ادعوا ربكم تذللاً واستكانة وهو إظهار الذل في النفس والخشوع يقال: ضرع فلان لفلان إذا ذل له وخشع {وخفية} أي: سرّاً في أنفسكم وهو ضدّ العلانية والأدب في الدعاء أن يكون خفياً لهذه الآية، وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً بصيراً وهو معكم» قال أبو موسى: وأنا خلفه أقول لا حول ولا قوّة إلا بالله في نفسي، فقال: «يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟» قلت: بلى، قال: «لا حول ولا قوّة إلا بالله» ، وقال الحسن: بين دعوة السرّ والجهر سبعون ضعفاً ولقد كان المسلمون يجهدون في الدعاء لا يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم وذلك أنّ الله تعالى يقول: {ادعوا ربكم تضرّعاً وخفية} فإنّ الله تعالى أثنى على زكريا عليه الصلاة والسلام فقال: {إذ نادى ربه نداءً خفياً} (مريم، 3)
وعن الحسن أيضاً: إنّ الله يعلم التقيّ والدعاء الخفيّ إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر الناس به وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة وعنده الزوّار وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يفعلوه في السرّ فيكون علانية أبداً {إنه} تعالى {لا يحب المعتدين} أي: المجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره نبه به على أنّ الداعي ينبغي له أن لا يطلب ما لا يليق به كرتبة الأنبياء عليهم الصلاة