نزلت هذه الآية يوم الجمعة يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع والنبيّ صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء فكادت عضد الناقة تندق من ثقلها فبركت، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنّ رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية من كتابكم تقرأونها لو علينا معاشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً قال: أي أية؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي أنزلت فيه على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة، أشار عمر إلى أنّ ذلك اليوم كان عيداً، قال ابن عباس: كان ذلك اليوم خمسة أعياد جمعة وعرفة وعيد اليهود وعيد النصارى والمجوس، ولم يجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده.
وروي أنها لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله تعالى عنه فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «ما يبكيك يا عمر؟» قال: أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا فإذا كمل فلم يكمل شيء إلا نقص قال: «صدقت» ، فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بعدها أحداً وثمانين يوماً ومات يوم الإثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة من الهجرة. وقيل: توفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل وكانت هجرته في الثاني عشر منه، فقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} أي: الفرائض والسنن والحدود والجهاد والحلال والحرام فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض وهذا معنى قول ابن عباس، وقال سعيد بن جبير وقتادة: اليوم أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك، وقيل: أظهرت دينكم وأمتكم من عدوّكم.
فإن قيل: قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} يقتضي أنّ الدّين كان ناقصاً قبل ذلك وذلك يوجب أنّ الدين الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم أكثر عمره كان ناقصاً، وإنما وجد الدّين الكامل في آخر عمره مدّة قليلة. أجيب: بأنّ الدين لم يكن ناقصاً بل كان أبداً كاملاً وكانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت، إلا أنه تعالى كان عالماً في أوّل وقت المبعث بأنّ ما هو بعد العدم وأمّا في آخر زمان المبعث فأنزل شريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة فالشرع أبداً كان كاملاً إلا أنّ الأوّل كمال إلى زمان مخصوص، والثاني كمال إلى يوم القيامة فلهذا قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي بإكماله، وقيل: بدخول مكة آمنين ورضيت أي: اخترت لكم الإسلام ديناً من بين الأديان، وهو الذي عند الله لا غير قال الله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} (آل عمران، 85) .
وقوله تعالى: {فمن اضطرّ} متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض بما يوجب التجنب عنها وهو إن تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامّة والإسلام المرضي، والمعنى: فمن اضطرّ إلى تناول شيء من هذه المحرمات {في مخمصة} أي: مجاعة {غير متجانف} أي: مائل {لإثم} أي: معصية بأن يأكل ذلك تلذّذاً ومجاوزاً حدّ الرخصة كقوله تعالى: {غير باغ ولا عاد} (البقرة، 173) {فإنّ الله غفور} له ما أكل {رحيم} به في إباحته فلا يؤاخذه ومن المائل إلى الإثم قاطع الطريق ونحوه فلا يحل له الأكل مما ذكر قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر