فيجتهد السامع في التفكّر لإظهار الأسرار والاستدلال على صفات الكمال؛ لأنّ الغرض الكلي من هذا الكتاب صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله إلى الاستغراق في معرفته سبحانه وتعالى، وهذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده.
{إن يشأ يذهبكم} أي: يفنكم {أيها الناس} كما أوجدكم {ويأت بآخرين} أي: ويوجد قوماً آخرين مكانكم أو خلقاً آخرين مكان الإنس {وكان الله على ذلك} أي: الإعدام والإيجاد {قديراً} أي: بليغ القدرة لا يمتنع عليه شيء أراده. وقيل: هذا خطاب لمن كان يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب إن يشأ يمتكم ويأت بناس آخرين يوالونه.
وروي أنه لما نزلت {إن يشأ يذهبكم} الآية ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهر سلمان وقال: «إنهم قوم هذا» أي: سلمان وهم بنو فارس.
{من كان يريد ثواب الدنيا} الخسيسة الفانية كالمجاهد يجاهد للغنيمة لقصور نظره على الخسيس الحاضر مع خسته كالبهائم {فعند الله ثواب الدنيا} الخسيسة الفانية {والآخرة} النفيسة الباقية لا عند غيره فما له يطلب الخسيس فليطلبهما منه كمن يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، أو ليطلب الأشرف منهما فإنّ من غلب همته فأقبل بقلبه إليه وقصر همه عليه جمع له سبحانه وتعالى بينهما كمن يجاهد لله خالصاً يجمع له بين الآخرة والمغنم {وكان الله سميعاً} أي: بالغ السمع لكل قول وإن خفي {بصيراً} أي: بالغ البصر لكل ما يبصر وإن خفي.
أي: قائمين قياماً بليغاً مواظباً عليه مجتهداً فيه {بالقسط} أي: بالعدل {شهداء} بالحق أي: تقيمون شهادتكم لوجه الله {ولو} كانت الشهادة {على أنفسكم} فاشهدوا عليها بأن تقرّوا بالحق ولا تكتموه {أو الوالدين والأقربين} أي: ولو كانت الشهادة على والديكم وأقاربكم {إن يكن} أي: المشهود عليه {غنياً} فلا تمنع الشهادة عليه لغناه طلباً لرضاه {أو فقيراً} فلا تمنع ترحماً عليه {فا أولى بهما} أي: الغني والفقير وبالنظر لهما فلو لم تكن الشهادة لهما أو عليهما صلاحاً لما شرعها.
تنبيه: الضمير في (بهما) راجع إلى ما دلّ عليه المذكور وهو جنس الغني والفقير لا إليهما وإلا لوحد الضمير لكون العطف بأو، فكأنه قال: فالله أولى بجنس الغني والفقير أي: بالأغنياء والفقراء {فلا تتبعوا الهوى} أي: في شهادتكم بأن تحابوا الغني لرضاه أو الفقير رحمة له {أن تعدلوا} أي: إرادة أن تعدلوا فقد بان لكم أن لا عدل في ذلك، أو لئلا تعدلوا أي: تميلوا عن الحق {وإن تلووا} أي: ألسنتكم لتحرفوا الشهادة {أو تعرضوا} أي: عن أدائها {فإنّ الله كان بما تعملون خبيراً} فيجازيكم به. وقرأ ابن عامر وحمزة بضم اللام وحذف الواو الأولى، والباقون بسكون اللام وواوين الأولى مضمومة.
{يأيها الذين آمنوا آمنوا} أي: داوموا على الإيمان {با ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله} محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن {والكتاب الذي أنزل من قبل} على الرسل بمعنى الكتب أي: آمنوا بجميع كتب الله المنزلة وقيل: إنّ الخطاب في ذلك لأهل الكتاب.
روي أنّ ابن سلام وأصحابه قالوا: يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير، ونكفر بما سواه، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم «بل آمنوا بالله ورسوله محمد والقرآن وبكل كتاب كان قبله» فأنزل الله تعالى هذه الآية.