ترهيباً اتبعه ما لغيرهم ترغيباً فقال:
{والذين آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان {وعملوا الصالحات} أي: الطاعات تصديقاً لإقرارهم {سندخلهم} بوعد لا خلف فيه {جنات تجري من تحتها الأنهار} أي: لريّ أرضها فحيثما أجرى منها نهر جرى {خالدين فيها} ولما كان الخلود يطلق على المكث الطويل دفع ذلك بقوله تعالى: {أبداً} أي: لا إلى آخر {وعد الله حقاً} أي: وعدهم الله ذلك وهو قوله تعالى: سندخلهم وحقه حقاً {ومن} أي: لا أحد {أصدق من الله قيلاً} أي: قولاً، وأكثر سبحانه وتعالى من التأكيد هنا؛ لأنه في مقابلة وعد الشيطان، ووعد الشيطان موافق للهوى الذي طبعت عليه النفوس، فلا تنصرف عنه إلا بعسر شديد.
ونزل لما افتخر المسلمون وأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فقال أهل الكتاب: نبيِّنا قبل نبيِّكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: نبيِّنا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على الكتب وقد آمنا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا فنحن أولى.
{ليس} أي: الأمر منوطاً {بأمانيكم} أيها المسلمون {ولا أمانيّ أهل الكتاب} بل بالإيمان والعمل الصالح {من يعمل سوأً يجز به} قال ابن عباس لما نزلت هذه شقت على المسلمين وقالوا: يا رسول الله أينا لم يعمل سوأً غيرك فكيف الجزاء؟ قال: منه ما يكون في الدنيا أي: بالبلاء والمحن كما ورد في الحديث: «فمن يعمل حسنة فله عشر أمثالها ومن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقي له تسع حسنات، فويل لمن غلبت آحاده أعشاره» وأمّا ما كان جزاء في الآخرة فيقابل بين حسناته وسيئاته فيلقى مكان كل سيئة حسنة وينظر في الفضل فيعطي الجزاء في الجنة فيؤتي كل ذي فضل فضله، وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه {من يعمل سوأً يجز به} {ولا يجد له من دون الله} أي: غيره {ولياً} أي: يحفظه {ولا نصيراً} أي: يمنعه منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أبا بكر ألا أقرئك آية نزلت عليّ؟» قلت: بلى يا رسول الله قال: فأقرأنيها قال: ولا أعلم أني قد وجدت انفصاماً في ظهري حتى تمطيت لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك يا أبا بكر فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي وأينا لم يعمل سوءاً وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمّا أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا» أي: بالبلاء والمحن كما مرّ حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب، «وأمّا الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا يوم القيامة» .
{ومن يعمل} شيئاً {من الصالحات} فإن كل أحد لا يتمكن من كلها وليس مكلفاً بها وقوله تعالى: {من ذكر أو أنثى} في موضع الحال من المستكن في يعمل ومن للبيان أو من الصالحات أي: كائنة من ذكر أو أنثى ومن للابتداء وقوله تعالى: {وهو مؤمن} حال شرط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب المذكور تنبيهاً على أنه لا اعتداد بالعمل الصالح دون اقتران بها {فأولئك} أي: العالو الرتبة {يدخلون} أي: ندخلهم {الجنة} أي: الموصوفة {ولا يظلمون نقيراً} قدر نقرة النواة من ثواب أعمالهم وإن لم ينقص ثواب المطيع فبالحرى أن لا يزاد عقاب العاصي؛ لأنّ المجازي هو أرحم الراحمين، ولذلك اقتصر على ذكره عقب الثواب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة بضم الياء وفتح الخاء، والباقون بفتح الياء وضم الخاء.
{ومن} أي: لا أحد {أحسن ديناً ممن أسلم وجهه}