حميد على كل حال تعجباً لتيسير الله تعالى لهذا الفتح الذي لم يخطر ببال أحد حامداً له عليه، أو فصل له حامداً على نعمه قاله ابن عباس. روي أنه صلى الله عليه وسلم «لما دخل مكة بدأ بالسجود فدخل الكعبة وصلى ثمان ركعات» . {واستغفره} ، أي: اطلب غفرانه لتقتدي بك أمّتك في المواظبة على الأمان الثاني، فإنّ الأمان الأول الذي هو وجودك بين أظهرهم قد دنا رجوعه إلى معدنه في الرفيق الأعلى، والمحل الأقدس، وفي ذلك إشارة إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله تعالى حق قدره كما أشار إلى ذلك الاستغفار عقب الصلاة التي هي أعظم العبادات وفي الصحيحين عن عائشة أنها قالت: «ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه سورة إذا جاء نصر الله والفتح إلا يقول: استغفر الله وأتوب إليه، قال: فإني أمرت بها، ثم قرأ {إذا جاء نصر الله والفتح} إلى آخرها» . وقال عكرمة: لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم قط أشد اجتهاداً في أمور الآخرة ما كان عند نزولها. وقال مقاتل: لما نزلت قرأها النبيّ صلى الله عليه وسلم على أصحابه، وفيهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص والعباس ففرحوا واستبشروا، وبكى العباس فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «ما يبكيك يا عمّ؟ قال: نعيت إليك نفسك،. قال: إنه كما قلت، فعاش بعدها ستون يوماً ما رؤى ضاحكاً مستبشراً» وقيل: نزلت في منى بعد أيام التشريق في حجة الوداع فبكى عمر والعباس، فقيل لهما: هذا يوم فرح، فقالا: لا بل فيه نعي النبيّ صلى الله عليه وسلم وعن ابن عمر نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع ثم نزل {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} (المائدة: 3)
فعاش صلى الله عليه وسلم بعدها ثمانين يوماً، ثم نزلت آية الكلالة فعاش بعدها خمسين يوماً، ثم نزلت {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} (التوبة: 128)
فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً، ثم نزل: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} (البقرة: 281)
فعاش بعدها أحداً وعشرين يوماً. وقال مقاتل: سبعة أيام، وقيل: غير ذلك. وقال الرازي: اتفق الصحابة على أنّ هذه السورة دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لوجوه:
أحدها: أنهم عرفوا ذلك لما خطب صلى الله عليه وسلم عقب السورة وذكر التخيير، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته لما نزلت هذه السورة: «إنّ عبداً خيره الله بين الدنيا وبين لقائه فاختار لقاء الله فقال أبو بكر رضي الله عنه: فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا» .
ثانيها: أنه لما ذكر حصول النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجاً دل ذلك على حصول الكمال والتمام، وذلك يستعقبه الزوال كما قيل::
*إذا تمّ أمر بدا نقصه ... توقع زوالاً إذا قيل تم*
ثالثها: أنه تعالى أمره بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقاً، واشتغاله بذلك يمنعه من الاشتغال بأمر الأمة فكان هذا كالتنبيه على أنّ أمر التبليغ قد تم وكمل، وذلك يقتضي انقضاء الأجل إذ لو بقي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لكان كالمعزول من الرسالة وذلك غير جائز وعن ابن عباس: أن عمر كان يدنيه ويأذن له مع أهل بدر، فقال عبد الرحمن: أتأذن لهذا الفتى معنا وفي أبنائنا من هو مثله؟ فقال: إنه من قد علمتم. قال ابن عباس: فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم فسألهم عن قول الله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح} ولا أراه سألهم إلا من أجلي، فقال بعضهم: أمر الله