الخليقة الذين أهملوا إصلاح أنفسهم وفرّطوا في حوائجهم ومآربهم، وهذا يحتمل أن يكون على التعميم، وأن يكون بالنسبة لعصر النبيّ صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وأني فضلتكم على العالمين} (البقرة: 47)
أي: عالمي زمانهم، ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم قبل من هو شرّ منهم، مثل فرعون وعاقر ناقة صالح.
ولما ذكر تعالى الأعداء وبدأ بهم لأنّ ذلك أردع لهم أتبعه الأولياء فقال تعالى مؤكداً ما للكفار من الإنكار:
{إنّ الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان {وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} أي: هذا النوع {أولئك} أي: هؤلاء العالو الدرجات {هم} أي: خاصة {خير البرية} أي: على التعميم، أو برية عصرهم يأتي فيه ما مرّ. وقرأ نافع وابن ذكوان بالهمز في الحرفين لأنه من قولهم برأ الله الخلق، والباقون بالياء المشدّدة بعد الراء كالذرية ترك همزه في الاستعمال. ثم ذكر ثوابهم بقوله تعالى: { {
{جزاؤهم} أي: على طاعاتهم وعظمه بقوله تعالى: {عند ربهم} أي: المربي لهم والمحسن إليهم {جنات عدن} أي: إقامة لا يحولون عنها {تجري} أي: جرياً دائماً لا انقطاع له {من تحتها} أي: تحت أشجارها وغرفها {الأنهار خالدين فيها} أي: يوم القيامة، أو في الحال لسعيهم في موجباتها وأكد معنى الخلود تعظيماً لجزائهم بقوله تعالى: {أبداً رضي الله} أي: بما له من نعوت الجلال والجمال {عنهم} أي: بما كان سبق لهم من العناية والتوفيق {ورضوا عنه} لأنهم لم يبق لهم أمنية إلا أعطاهموها مع علمهم أنه تفضل في جميع ذلك لا يجب عليه لأحد شيء، ولا يقدره أحد حق قدره فلو أخذ الخلق بما يستحقونه لأهلكهم كما قال تعالى: {لو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} (فاطر: 45)
. وقال ابن عباس: ورضوا عنه بثواب الله عز وجل. {ذلك} أي: الأمر العالي الذي جوزوا به {لمن خشي ربه} أي: خاف المحسن إليه خوفاً يليق به فلم يركن إلى التسويف والتكاسل، فإنّ الخشية ملاك الأمر والباعث على كل خير وهي للعارفين، فإنّ الإنسان إذا استشعر عذاباً يأتيه لحقته حالة يقال لها: الخوف، وهي انخلاع القلب عن طمأنينته، فإن اشتدّ سمي: وجلاً لجولانه في نفسه، فإن اشتدّ سمي: رهباً لأدائه إلى الهرب وهي حالة المؤمنين الفارّين إلى الله تعالى. ومن غلب عليه الحب لاستغراقه في شهود الجماليات لحقته حالة تسمى مهابة ووراء هذا الخشية {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 28)
فمن خاف ربه هذا الخوف أنفك عن جميع ما عنده مما لا يليق بجنابه تعالى، وما فارق الخوف قلباً إلا خرب. روى أنس «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ بن كعب: إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك {لم يكن الذين كفروا} قال أبيّ: وسماني لك؟ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم نعم فبكى أبيّ» . قال البقاعي: سبب تخصيصه بذلك أنه وجد اثنين من الصحابة قد خالفاه في القراءة فرفعهما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمرهما فعرضا عليه فحسن لهما قال: فسقط في نفسي من التكذيب أشدّ ما يكون في الجاهلية، فضرب صلى الله عليه وسلم في صدري ففضت عرقاً وكأنما أنظر إلى الله فرقاً، أي: خوفاً ثم قصَّ عليّ خبر التخفيف بالسبعة الأحرف، وكانت السورة التي وقع فيها الخلاف النحل، وفيها أنه تعالى يبعث رسوله صلى الله عليه وسلم يوم البعث شهيداً، وأنه نزل عليه الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة، وأنه نزل عليه روح القدس بالحق ليثبت الذين آمنوا،