أنه تعالى ذكرهم أنه قادر على الابتداء، والقادر على الابتداء قادر على الإعادة، فكما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة لا جرم قال تعالى في حقهم: {ويل يومئذ للمكذبين} وهذه الآية نظير قوله تعالى: {ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين} (السجدة: 8)
. وقرأ كل القراء بإدغام القاف في الكاف وإبقاء الصفة ولهم أيضاً إدغام الصفة مع الحذف.
{فجعلناه} أي: بما لنا من القدرة والعظمة بالإنزال للماء في الرحم {في قرار} أي: مكان {مكين} أي: حريز وهو الرحم.
{إلى قدر معلوم} أي: وهو وقت الولادة، كقوله تعالى: {إن الله عنده علم الساعة} إلى قوله: {ويعلم ما في الأرحام} (لقمان: 34)
{فقدرنا} أي: ذلك دون غيرنا {فنعم القادرون} نحن، وقرأ نافع والكسائي بتشديد الدال فيصح على هذه القراءة أن يكون المعنى: فقدّرناه والباقون بالتخفيف، وقال عليّ كرم الله وجهه: ولا يبعد أن يكون المعنى في التخفيف والتشديد واحداً؛ لأنّ العرب تقول: قدر وقدرعليه الموت.
{ويل يومئذ} أي: إذ كان ذلك {للمكذبين} أي: بقدرتنا على ذلك أو على الإعادة.
وقوله تعالى: {ألم نجعل} أي: نصير بما شئنا بما لنا من العظمة {الأرض كفاتاً} مصدر كفت بمعنى ضم وعاء ضامّة.
{أحياء} أي: على ظهرها في الدور وغيرها {وأمواتاً} أي: في بطنها في القبور وغيرها. وقيل: الأحياء والأموات ترجع إلى الأرض أي: الأرض منقسمة إلى حيّ وهو الذي ينبت، وإلى ميت وهو الذي لا ينبت، وقيل: كفاتاً جمع كافت كصيام وقيام جمع صائم وقائم، وقال الخليل: تقليب الشيء ظهراً لبطن أو بطناً لظهر ويقال انكفت القوم إلى منازلهم، أي: انقلبوا، فمعنى الكفات أنهم يتصرّفون على ظهرها وينقلبون إليها فيدفعون فيها.
{وجعلنا} أي: بما لنا من القدرة التامّة {فيها} أي: الأرض {رواسي} أي: جبالاً لولاها لمادت بأهلها، ومن العجائب مراسيها من فوقها خلافاً لمراسي السفن {شامخات} أي: مرتفعات جمع شامخ وهو المرتفع جدّاً، ومنه شمخ بأنفه إذا تكبر، جعل كناية عن ذلك كثنى العطف وصعر الخدّ، كما قال لقمان لابنه: {ولا تصعر خدّك للناس} (لقمان: 18)
{وأسقيناكم} أي: بما لنا من العظمة {ماء} أي: من الأنهار والعيون والغدران والآبار وغير ذلك {فراتاً} أي: عذباً تشربون منه ودوابكم وتسقون منه زرعكم، وهذه الأمور أعجب من البعث، روي في الأرض من الجنة سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة.
{ويل يومئذ} أي: إذ تقوم الساعة {للمكذبين} أي: بأمثال هذه النعم.
وقوله تعالى: {انطلقوا} على إرادة القول، أي: يقال للمكذبين يوم القيامة: انطلقوا. {إلى ما كنتم به تكذبون} من العذاب يعني: النار فقد شاهدتموها عياناً.
{انطلقوا إلى ظل} أي: ظل دخان جهنم لقوله تعالى: {وظل من يحموم} (الواقعة: 43)
. {ذي ثلاث شعب} أي: تشعب لعظمه كما يرى الدخان العظيم يتفرّق ذوائب. وقيل: يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق ويتشعب من دخانها ثلاث شعب فتظللهم حتى يفرغ حسابهم والمؤمنون في ظل العرش، وقيل: إن الشعب الثلاث: هي الضريع والزقوم والغسلين؛ لأنها أوصاف النار وقوله تعالى: {لا ظليل} أي: كنين يظلهم من حرّ ذلك اليوم تهكم بهم وردّ لما يوهم لفظ الظل. {ولا يغني} أي: ولا يردّ عنهم شيئاً {من اللهب} أي: لهب النار، فليس كالظل الذي يقي حرّ الشمس، وهذا تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين. واللهب ما يعلو