كل الأشياء ما يرى وما لا يرى من دوابّ البرّ والبحر في الأيام الست التي خلق الله تعالى فيها السموات والأرض وآخرها خلق آدم عليه السلام فهو قوله تعالى: {لم يكن شيئاً مذكوراً} .
روي أنّ أبا بكر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية قال: ليتها تمت فلا نبتلى أي: ليت هذه المدّة التي أتت على آدم عليه السلام {لم يكن شيئاً مذكوراً} تمت على ذلك فلا يلد ولا تبتلى أولاده. وسمع عمر رجلاً يقرأ {لم يكن شيئاً مذكوراً} قال عمر: ليتها تمت يقول: ليته بقي ما كان، هذا وهما ضجيعاه صلى الله عليه وسلم ولكن بقدر القرب يكون الخوف.
فإن قيل: إنّ الطين والصلصال والحمأ المسنون قبل نفخ الروح فيه ما كان إنساناً والآية تقتضي أنه مضى على الإنسان حال كونه إنساناً حين من الدهر مع أنه في ذلك الحين ما كان شيئاً مذكوراً؟ أجيب: بأن الطين والصلصال إذا كان مصوراً بصورة الإنسان ويكون محكوماً عليه بأنه سينفخ فيه الروح ويصير إنساناً صح تسميته بأنه إنسان.
روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {لم يكن شيئاً مذكوراً} لا في السماء ولا في الأرض بل كان جسداً مصوّراً تراباً وطيناً لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به، ثم نفخ الروح فصار مذكوراً. قال ابن سلام: لم يكن شيئاً لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ولم يخلق بعده حيواناً.
وقال الزمخشريّ وتبعه جماعة من المفسرين: إنّ المراد بالإنسان جنس بني آدم بدليل قوله تعالى: {إنا خلقنا الإنسان} أي: بعد خلق آدم عليه السلام {من نطفة} أي: مادّة هي شيء يسير جداً من الرجل والمرأة وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة، كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه:
*ما لي أراك تكرهين الجنة ... هل أنت إلا نطفة في شنه*
وعلى هذا فالمراد بالحين المدة التي هو فيها في بطن أمه {لم يكن شيئاً مذكوراً} إذ كان علقة ومضغة؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له وقوله تعالى: {أمشاج} أي: أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة المختلطين الممتزجين نعت لنطفة ووقع الجمع نعتاً لمفرد لأنه في معنى الجمع كقوله {رفرف خضر} أو جعل كل جزء من النطفة نطفة فوصفت بالجمع، وقال الزمخشريّ: {نطفة أمشاج} كبرمة أعشار وبرد أكياش، وهي ألفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد، ويقال أيضاً: نطفة مشج قال الشماخ:
*طوت أحشاء مرتجة لوقت ... على مشج سلالته مهين*
ولا يصح أمشاج أن يكون تكسيراً له بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما اه. فقد منع أن يكون أمشاجاً جمع مشج بالكسر. قال أبو حيان: وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أنّ أفعالاً لا يكون مفرداً، وأجاب بعضهم بأن الزمخشري إنما قال يوصف به المفرد ولم يجعل أفعالاً مفرداً فكأنه جعل كل قطعة من البرمة برمة وكل قطعة من البرد برداً فوصفهما بالجمع، والمعنى: من نطفة قد امتزج فيها الماءان وكل منهما مختلف الأجزاء متباين الأوصاف في الرقة والثخن والقوام والخواص يجمع من الأخلاط وهي العناصر الأربعة: ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما علا كان الشبه له.
وعن ابن عباس رضي الله