غاية البيان {إلى الرشد} أي: الحق والصواب {فآمنا} أي: كل من استمع منا لم يتخلف منا أحد ولا توقف بعد الاستماع {به} أي: القرآن أي فاهتدينا به وصدّقنا أنه من عند الله.
{ولن نشرك بربنا أحداً} أي: لا نرجع إلى إبليس ولا نطيعه ولا نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك، وهذا يدل على أنّ أولئك الجنّ كانوا مشركين. قال الرازي: واعلم أنّ قوله تعالى: {قل} أمر لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يظهر لأصحابه ما أوحي إليه في واقعة الجنّ وفيه فوائد: أحدها: أن يعرفوا بذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الجنّ كما بعث إلى الإنس. ثانيها: أن تعلم قريش أنّ الجنّ مع تمرّدهم لما سمعوا القرآن وعرفوا إعجازه آمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ثالثها: أن يعلم القوم أنّ الجنّ مكلفون كالإنس. رابعها: أن يعلم أنّ الجنّ يستمعون كلاماً تفهمه من لغتنا. خامسها: أن يظهر المؤمن منهم بدعوى غيره من الجنّ إلى الإيمان، وفي هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس.
تنبيهات:
أحدها: اختلف العلماء في أصل الجنّ فروي عن الحس البصري أنّ الجنّ ولد إبليس والإنس ولد آدم، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثواب والعقاب، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء كافراً فهو شيطان. وروى الضحاك عن ابن عباس أنّ الجنّ هم ولد الجان وليسوا شياطين ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. وروي أنّ ذلك النفر كانوا يهوداً. وذكر الحسن أنّ منهم يهوداً ونصارى ومجوساً ومشركين.
ثانيها: اختلفوا في دخول الجنّ الجنة على حسب الاختلاف في أصلهم، فمن زعم أنهم من الجانّ لا من ذرية إبليس قال: يدخلون الجنة بإيمانهم، ومن قال إنهم من ذرّية إبليس فلهم فيهم قولان: أحدهما وهو قول الحسن: يدخلونها. والثاني وهو رواية مجاهد: لا يدخلونها.
ثالثها: قال القرطبي: قد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجنّ، وقالوا: إنهم بسائط ولا يصح طعامهم اجتراء على الله تعالى والقرآن والسنة يردّان عليهم، وليس في المخلوقات بسيط بل مركب مزدوج، إنما الواحد الواحد سبحانه وغيره مركب ليس بواحد، وليس بممتنع أن يراهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورهم كما يرى الملائكة، وأكثر ما يتصوّرون لنا في صور الحيات.
ثم عطفوا على قولهم إنا سمعنا {وأنه} أي: الشأن العظيم قال الجنّ {تعالى} أي: انتهى في العلوّ إلى حدّ لا يستطاع {جدّ} أي: عظمة وسلطان وكمال غنى {ربنا} يقال: جدّ الرجل إذا عظم ومنه قول أنس كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا أي عظم قدره. وقال السدي: جدّ ربنا أي أمر ربنا. وقال الحسن: غني ربنا. ومنه قيل: الحظ جدّ، ورجل مجدود، أي: محظوظ. وفي الحديث: «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» . قال أبو عبيد والخليل: أي ذا الغنى منك الغنى إنما تنفعه الطاعة. وقال ابن عباس: قدرة ربنا. وقال الضحاك: فعله. وقال القرطبي: آلاؤه ونعماؤه على خلقه. وقال الأخفش: علا ملكُ ربنا، والأولى جميع هذه المعاني، وقرأ {وأنه تعالى جدّ ربنا} وما بعده إلى قوله تعالى: {وأنا منا المسلمون} وهي اثنا عشر موضعاً ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بفتح الهمزة في الجميع والباقون بالكسر.
ولما وصفوه بهذا التعالي الأعظم المستلزم للغنى المطلق والتنزه عن كل شائبة نقص بينوه بنفي ما ينافيه من قولهم إبطالاً للباطل