منهم واحتقاراً للداعي {في آذانهم} حقيقة لئلا يسمعوا الدعاء، إشارة إلى أنا لا نريد أن نسمع ذلك منك، فإن أبيت إلا الدعاء فإنا لا نسمع لسد أسماعنا ودل على الإفراط في كراهة الدعاء بما ترجم عنه قوله: {واستغشوا ثيابهم} أي: أوجدوا التغطية لرؤوسهم بثيابهم لئلا يبصروه كراهة للنظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله تعالى، وهكذا حال النصحاء مع من ينصحونه دائماً. {وأصروا} أي: أكبوا على الكفر وعلى المعاصي من أصر الحمار على العانة، وهي القطيع من الوحش إذا صر أذنيه وأقبل عليها يكدمها ويطردها {واستكبروا} أي: أوجدوا الكبر طالبين له راغبين فيه وأكد ذلك بقوله: {استكباراً} تنبيهاً على أن فعلهم منابذ للحكمة، وقد أفادت هذه الآيات بالصريح في غير موضع أنهم عصوا نوحاً عليه السلام وخالفوه مخالفة لا أقبح منها ظاهراً بتعطيل الأسماع والأبصار وباطناً بالإصرار والاستكبار.
{ثم إني دعوتهم جهاراً} أي: معلناً بالدعاء، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بأعلى صوتي.
{ثم إني أعلنت لهم} أي: كررت لهم الدعاء معلناً، وقرأ نافع وابن كثير بفتح الياء والباقون بسكونها {وأسررت لهم إسراراً} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يريد الرجل بعد الرجل، أكلمه سراً بيني وبينه، أدعوه إلى عبادتك وتوحيدك.
{فقلت} أي: في دعائي لهم {استغفروا ربكم} أي: اطلبوا من المحسن إليكم المبدع لكم المدبر لأموركم أن يمحو ذنوبكم أعيانها وآثارها بأن تؤمنوا بالله وتتقوه {إنه كان} أي: أزلاً وأبداً ودائماً سرمداً {غفاراً} أي: متصفاً بصفة الستر على من رجع إليه.
{يرسل السماء} أي: المظلة لأن المطر منها، ويجوز أن يراد السحاب والمطر {عليكم مدراراً} .
{ويمددكم بأموال وبنين} أي: ويكثر أموالكم وأولادكم، وذلك أن قوم نوح عليه السلام لما كذبوه زماناً طويلاً حبس الله تعالى عنهم المطر وعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فهلكت أموالهم ومواشيهم، فقال لهم نوح: استغفروا ربكم من الشرك، أي: استدعوه المغفرة بالتوحيد {يرسل السماء عليكم مدراراً} . روى الشعبي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما خرج يستسقي بالناس فلم يزد على الاستغفار، فلما نزل قيل: يا أمير المؤمنين ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبت الغيث بمخاريج السماء التي بها يستنزل القطر، ثم قرأ هذه الآية، شبه الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطىء. وعن الحسن أن رجلاً شكا إليه الجدب، فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أبواباً ويسألون أنواعاً، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فتلا الآية. وقال القشيري: من وقعت له حاجة إلى الله تعالى فلن يصل إلى مراده إلا بتقديم الاستغفار. وقال: إن عمل قوم نوح كان بضد ذلك، كلما ازداد نوح عليه السلام في الضمان ووجوه الخير والإحسان ازدادوا في الكفر والنسيان.
{ويجعل لكم} أي: في الدارين {جنات} أي: بساتين عظيمة وأعاد العامل للتأكيد، فقال {ويجعل لكم أنهاراً} أي: يخصكم بذلك عمن لم يفعل ذلك، فإن من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً. وقال تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} (الأعراف: 96)
وقال تعالى: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} وقال تعالى: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً} (الجن: 16)
{ما لكم لاترجون الله} أي: الملك الذي له الأمر كله {وقاراً} أي: ما لكم لا تأملون له توقيراً، أي: تعظيماً، والمعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب. ولله بيان للموقر ولو تأخر لكان صلة الوقار، فإنّ بالمعرفة تزكو الأعمال وتصلح الأقوال، إنما سبق أبو بكر رضي الله عنه بشيء وقر في صدره، وإنما يصح تعظيمه سبحانه بأن لا ترى لك عليه حقاً ولا تنازع له اختياراً، وتعظم أمره ونهيه بعدم المعارضة.
{وقد} أي: والحال أنه قد أحسن إليكم مرّة بعد مرّة بما لا يقدر عليه غيره، فدل ذلك على تمام قدرته ثم لم يقطع إحسانه عنكم، فاستحق أن تؤمنوا به لأنه {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: 60)
ورجاء لدوام إحسانه وخوفاً من قطعه لأنه {خلقكم} أي: أوجدكم من العدم مقدّرين {أطواراً} أي: تارات عناصر أولاً ثم مركبات تغذي الحيوانات، ثم أخلاطاً ثم نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً ثم عظاماً ولحوماً وأعصاباً ودماء، ثم خلقاً آخر تاماً ناطقاً ذكراناً وإناثاً إلى غير ذلك من الأمور الدالة على قدرته على كل مقدور، ومن قدر على هذا ابتداء كان على الإعادة أعظم قدرة.
{ألم تروا} أي: أيها القوم {كيف خلق الله} أي: الذي له العلم التامّ والقدرة البالغة والعظمة الكاملة {سبع سموات} هنّ في غاية العلو والسعة والإحكام والزينة {طباقاً} أي: متطابقة بعضها فوق بعض، وكل واحدة في التي تليها محيطة بها ما لها من فروج، ولا يكون تمام المطابقة كذلك إلا بالإحاطة من كل جانب.
{وجعل القمر} أي: الذي ترونه {فيهنّ نوراً} أي: لامعاً منتشراً كاشفاً للمرئيات، أحد وجهيه يضيء لأهل الأرض؛ والثاني لأهل السماوات. قال الحسن: يعني في السماء الدنيا، كما تقول: أتيت بني فلان، وإنما أتيت بعضهم وفلان متوار في دور بني فلان، وهو في دار واحدة، وبدأ به لقربه وسرعة حركته وقطعه جميع البروج في كل شهر وغيبوبته في بعض الليالي، ثم ظهوره وذلك أعجب في القدرة.
ولما كان نوره مستفاداً من نور الشمس قال تعالى: {وجعل} أي: فيها {الشمس} أي: في السماء الرابعة {سراجاً} أي: نوراً عظيماً كاشفاً لظلمة الليل عن وجه الأرض وهي في السماء الرابعة كما مرّ. وقيل: في الخامسة، وقيل: في الشتاء في الرابعة وفي الصيف في السابعة. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن عمر: أنّ الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماء وأقفيتهما إلى الأرض، وجعلهما سبحانه آية على رؤية عباده المؤمنين له في الجنة.
{والله} أي: الملك الأعظم الذي له الأمر كله {أنبتكم} أي: بخلق أبيكم آدم عليه السلام {من الأرض} أي: كما ينبت، وعبر بذلك تذكيراً لنا بما كان من خلق أبينا آدم عليه السلام لأنه أدل على الحدوث والتكون من الأرض {نباتاً} أي: أنشأكم منها إنشاء، فاستعير الإنبات له لأنه أدل على الحدوث والتكوّن، وأصله أنبتكم فنبتم نباتاً فاختصر اكتفاء بالدلالة الالتزامية.
{ثم يعيدكم} على التدريج {فيها} أي: الأرض بالموت والإقبار وإن طالت الآجال {ويخرجكم} أي: منها بالإعادة، وأكد بالمصدر الجاري على الفعل إشارة إلى شدّة العناية به وتحتم وقوعه لإنكارهم له فقال تعالى: {إخراجاً} أي: غريباً ليس هو كما تعلمون بل تكونون به في غاية ما يكون من الحياة الباقية تلابس أرواحكم بها أجسامكم ملابسة