قوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} اشتدت على القوم فقاموا حتى ورمت وقرحت جباههم فأنزل الله تعالى تخفيفاً فيهم {فاتقوا الله ما استطعتم} فنسخت الأولى.
قال الماوردي: ويحتمل أن يثبت هذا النقل لأن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها، لأنه لا يستطيع اتقاءها {واسمعوا} أي: سماع إذعان وتسليم لما توعظون به وجميع أوامره {وأطيعوا} أي: وصدقوا ذلك الإذعان بمباشرة الأفعال الظاهرة في الإسلاميات من القيام بأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله في كل أمر ونهي على حسب الطاقة وحذف المتعلق ليصدق الأمر بكل طاعة {وأنفقوا} أي: أوقعوا الإنفاق كما حد لكم فيما وجب أو ندب إليه، والإنفاق لا يخص نوعاً بل يكون بكل ما رزق الله من الذاتي والخارجي. وقوله تعالى: {خيراً لأنفسكم} في نصبه أوجه: أحدها: قال سيبويه إنه مفعول بفعل مقدر دل عليه {وأنفقوا} تقديره: وقدموا خيراً لأنفسكم كقوله تعالى: {انتهوا خيراً لكم} (النساء: 171)
الثاني: تقديره يكن الإنفاق خيراً فهو خبر كان المضمرة، وهو قول أبي عبيدة. الثالث: أنه نعت مصدر محذوف، وهو قول الكسائي والفراء، أي: إنفاقاً خيراً لأنفسكم فإن الله يعطي خيراً منه في الدنيا مع ما تزكى به النفس ويدخر عليه من الجزاء في الآخرة مما لا يدري كنهه فلا يغرنكم عاجل شيء من ذلك فإنما هو زخرف.
ولما ذكر ما في الإنفاق من الخير عمم في جميع الأوامر بقوله تعالى: {ومن يوق شح نفسه} فيفعل في ماله جميع ما أمر به موقناً به مطمئناً إليه حتى يرتفع عن قلبه الإخطار، ويتحرر عن رق المكنونات، والشح خلق باطنى هو الداء العضال، والبخل فعل ظاهر ينشأ عن الشح، والنفس تارة تشح بترك الشهوة من المعاصي فتفعلها، وتارة بإعطاء الأعضاء في الطاعات فتتركها وتارة بإنفاق المال ومن فعل ما فرض عليه خرج من الشح. ولما كان الواقي هو الله تعالى سبب عن وقايته قوله تعالى: {فأولئك} أي: العالو الرتبة {هم المفلحون} أي: الفائزون الذين حازوا جميع المرادات بما اتقوا الله فيه.
ثم رغب في الإنفاق بقوله تعالى: {إن تقرضوا الله} أي: الملك الأعلى ذا الغنى المطلق الحائز لجميع صفات الكمال {قرضاً حسناً} والقرض الحسن هو التصدق من الحلال مع طيب النفس ومع الإخلاص والمبادرة {يضاعفه لكم} أي: لأجلكم خاصة أقل ما يكون بالواحد عشراً إلى ما لا يتناهى على حسب النيات.
قال القشيري: يتوجه الخطاب بهذا على الأغنياء في بذل أموالهم، وعلى الفقراء في إخلاء أيامهم وأوقاتهم من مروآتهم وإيثار مراد الحق على مراد أنفسهم، فالغني يقال له آثر حكمي على مرادك في مالك وغيره، والفقير يقال له: آثر حكمي في نفسك وقلبك ووقتك.
ولما كان الإنسان لما له من النقصان وإن اجتهد لا يبلغ جميع ما أمر به لأن الدين وإن كان يسيراً فهو متين لن يشاده أحد إلا غلبه قال تعالى: {ويغفر لكم} أي: يوقع الغفران وهو محو ما فرط عينه وأثره {والله} أي: الذي لا تقاس عظمته بشيء {شكور} أي: بليغ الشكر لمن يعطي لأجله، ولو كان قليلاً فيثيبه ثواباً جزيلاً خارجاً عن الحصر، وهو ناظر إلى المضاعفة {حليم} فلا يعجل بالعقوبة على ذنب من الذنوب، وإن عظم بل يمهل طويلاً ليتذكر العبد الإحسان مع العصيان فيتوب، ولا يهمل ولا يغتر بحلمه فإن غضب الحليم لا يطاق، وهو