الخالق ما لا يعلمه، ولو سئل الإنسان كم مشى في يومه من خطوة لم يدر فكيف لو سئل أين موضع مشيه، ومتى زمانه فكيف، وإنه ليمشي أكثر مشيه وهو غافل عنه، ومن جهل أفعاله كماً وكيفاً وأيناً وغير ذلك لم يكن خالقاً لها بوجه.
ولما ذكر المظروف ذكر ظرفه دالاً على تمام إحاطته بالبواطن والظواهر.
وقوله تعالى: {خلق السموات} أي: على علوها وكبرها {والأرض} على سعتها {بالحق} أي: بالأمر الذي يطابقه الواقع لما أراد {وصورّكم} أي: آدم عليه السلام خلقه بيده كرامة له. قال مقاتل: وقيل: جميع الخلائق على صور لا توافق شيئاً من صور العلويات، ولا السفليات، ولا فيها صور توافق الأخرى من كل وجه {فأحسن صوركم} فجعلها أحسن الحيوانات كلها كما هو مشاهد، وبدليل أن الإنسان لا يتمنى أن يكون على خلاف ما يرى من سائر الصور، ومن حسن صورته أن خلقه منتصباً غير منكب كما قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} (التين: 4)
كما يأتى إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: قد يوجد في أفراد هذا النوع من كل مشوه الخلقة سمج الصورة.
أجيب: بأنه لا سماجة لأن الحسن في المعاني، وهو على طبقات ومراتب، فانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقه لا يمنع حسنه، فهو داخل في حيز الحسن غير خارج عن حدّه، فقبح القبيح منه إنما هو بالنسبة إلى أحسن منه. ولذا قال الحكماء: شيئان لا غاية لهما الجمال والبيان، فقدرة الله سبحانه وتعالى لا تتناهى.
قال البقاعي: فإياك أن تصغي لما وقع في كتب الغزالي إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، فإن ذلك ينحل إلى أنه سبحانه لا يقدر أن يخلق أحسن من هذا العالم، وهذا لا يقوله أحد، ا. هـ. وهو لا ينقص مقدار الغزالي فإن كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه كما قال الإمام مالك، وعزاه الغزالي نفسه إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الشافعي: صنفت هذه الكتب وما ألوت فيها جهداً وإني لا علم أن فيها الخطأ لأن الله تعالى يقول: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا} (النساء: 82)
ولما كان التقدير فكان منه سبحانه المبدأ عطف عليه قوله تعالى: {وإليه} وحده {المصير} أي: المرجع بعد البعث فيجازى كلاً بعمله.
{يعلم} أي: علمه حاصل في الماضي والحال والمآل {ما} أي: كل شئ {في السماوات} أي: كلها {والأرض} كذلك {ويعلم} أي: على سبيل الاستمرار {ما تسرون} أي: تخفون {وما تعلنون} أي: تظهرون من الكلمات والجزئيات {والله} أي: الذي له الإحاطة التامة {عليم} أي: بالغ العلم {بذات} أي: صاحبة {الصدور} من الأسرار والخواطر التي لم تبرز في الخارج سواء كان صاحب الصدر قد علمها أم لا، وعلمه لكل ذلك على حد سواء لا تفاوت فيه بين علم الخفي وعلم الجلي نبه بعمله ما في السماوات والأرض، ثم يعلم ما يسره العباد ويعلنونه، ثم بعلمه ذوات الصدور إن شيئاً من الجزئيات والكليات غير خافٍ عليه، ولا عازب عنه، ولا يجترىء على شيء مما يخالف رضاه، وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد، وكل ما ذكره بعد قوله: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} كما ترى في معنى الوعيد على الكفر، وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته.
{ألم يأتكم} أيها الناس ولا سيما الكفار {نبأ} أي: خبر {الذين كفروا من قبل} كقوم نوح وهود وصالح {فذاقوا} أي: باشروا مباشرة الذائق {وبال أمرهم} أي: ضرر كفرهم في الدنيا، وأصله الثقل، ومنه الوبيل لطعام يثقل على المعدة، والوابل: المطر الثقيل القطر {ولهم عذاب أليم}