المحبة والمودّة بقوله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا} أي: الذين اتصفوا بهذا الوصف {إذا قيل لكم} أي: من أيّ قائل كان فإنّ الخير يرغب فيه لذاته {تفسحوا} أي: توسعوا أي: كلفوا أنفسكم في اتساع المواضع {في المجلس} أي: الجلوس أو مكانه لأجل من يأتي فلا يجد مجلساً يجلس فيه، قال قتادة ومجاهد: «كانوا يتنافسون في مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض» ، وقال ابن عباس: المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب، قال الحسن وزيد بن أبي حبيب «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه على الصف الأوّل فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال والشهادة فنزلت» . فيكون كقوله تعالى: {مقاعد للقتال} (آل عمران: 121)
وقال مقاتل «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصفة وكان في المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين، والأنصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجلس، فقاموا قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لمن حوله من غير أهل بدر: قم يا فلان بعدد القائمين من أهل بدر فشق ذلك على من قام، وعرف النبيّ صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم فقال المنافقون: والله ما عدل على هؤلاء أنّ قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ» فنزلت الآية يوم الجمعة
وروي عن ابن عباس قال: «نزلت الآية في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه دخل المسجد وقد أخذ القوم مجالسهم وكان يريد القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم للوقر أي: الصمم الذي كان في أذنيه فوسعوا له حتى قرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضايقه بعضهم وجرى بينه وبينهم كلام فنزلت» وقد تقدّمت قصته في سورة الحجرات. وقرأ عاصم: يفتح الجيم، ألف بعدها جمعاً لأنّ لكل جالس مجلساً أي: فليفسح كل واحد في مجلسه والباقون بسكون الجيم ولا ألف إفرادا، قال البغوي: لأنّ المراد منه مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم
وقال القرطبي: الصحيح في الآية أنها عامة في مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير وللأجر سواء أكان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة، وإنّ كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه قال صلى الله عليه وسلم «من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ بذلك فيخرجه الضيق من موضعه» فيكون المراد بالمجلس الجنس ويؤيده قراءة الجمع {فافسحوا} أي: وسعوا فيه عن سعة صدر {يفسح الله} أي: الذي له الأمر كله {لكم} في كل ما تكرهون ضيقه من الدارين.
وقال الرازي: هذا يطلق فيما يطلب الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة قال: ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه.
وإذا قيل: أي من أيّ قائل كان كما مضى إذا كان يريد الإصلاح والخير {انشزوا} أي: ارتفعوا وانهضوا إلى الموضع الذي تؤمرون به أو يقتضيه الحال للتوسعة أو غيرها من الأوامر كالصلاة والجهاد {فانشزوا} أي: فارتفعوا وانهضوا {يرفع الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {الذين آمنوا} وإن كانوا غير علماء {منكم} أي: أيها