فلا تعجبوا من هذه البحار الزاخرة فإنّ معلمه بهذه الصفة التي هو بها بحيث ينفذ كلّ ما أمره الله تعالى به وهو جبريل عليه السلام، فإنه الواسطة في إبداء الخوارق. روي أنه قلع قرى قوم لوط ورفعها إلى السماء ثم قلبها وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين، وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده في أوحى من رجعة الطرف، ورأى إبليس يكلم عيسى على بعض عقاب الأرض المقدسة فنفحه نفحة بجناحه فألقاه في أقصى بلاد الهند.
{ذو مرّة} قال ابن عباس: ذو منظر حسن وقال أكثر المفسرين: ذو قوة وقدرة عظيمة على الذهاب فيما أمر به، والطاقة لحمله بغاية النشاط والحدة كأنه ذو مزاج غلبت عليه الحدة فهو صعب المراس في مزاولته ماض على طريقة واحدة على غاية من الشدّة لا توصف لا التفات له بوجه إلى غير ما أمر به، فهو مجتمع القوى مستحكم الشأن شديد الشكيمة لا يسأم في شيء يزاوله، ومن جملة ما أعطي من القوّة القدرة على التشكل وإلى ذلك أشار بما تسبب عن هذا من قوله تعالى {فاستوى} أي: فاستقام واعتدل بغاية ما يكون من قوّته على أكمل حالاته في الصورة التي فطر عليها.
{وهو} أي: والحال أنّ جبريل عليه السلام {بالأفق الأعلى} أي: عند مطلع الشمس، وذلك أنّ جبريل عليه السلام كان يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين كما كان يأتي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه على صورته التي خلق عليها، فأراه نفسه مرتين مرّة في الأرض ومرّة في السماء، فأمّا التي في الأرض ففي الأفق الأعلى، والمراد بالأعلى جانب المشرق وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان بحراء وكان جبريل واعده أن يأتيه وهو بحراء فطلع له جبريل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب فخر صلى الله عليه وسلم مغشياً عليه فنزل له جبريل عليه السلام في صورة الآدميين.
{ثم دنا} أي قرب منه {فتدلى} أي زاد في القرب.
{فكان} منه {قاب} أي قدر {قوسين} أي عربيتين {أو أدنى} من ذلك وضمه إلى نفسه حتى أفاق وسكن روعه وجعل يمسح التراب عن وجهه، وأمّا في السماء فعند سدرة المنتهى ولم يره أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد صلى الله عليه وسلم
تنبيه: القاب والقيب والقاد والقيد والقيس المقدار، وقد جاء التقدير بالقوس والرمح والسوط والذراع والباع والخطوة والشبر والفتر والأصبع ومنه «لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين» وفي الحديث «لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها» والقد: السوط، ويقال بينهما خطوات يسيرة وقال الشاعر:
* ... وقد جعلتني من خزيمة أصبعا
فإن قيل: كيف تقدير قوله: {فكان قاب قوسين} أجيب: بأنّ تقديره فكان مسافة قربه مثل قاب قوسين فحذفت هذه المضافات كما قال أبو علي في قوله: وقد جعلتني من خزيمة أصبعا أي ذا مقدار مسافة أصبع.
وروى الشيباني قال: سألت زراً عن قوله تعالى: {فكان قاب قوسين أو أدنى} قال أخبرنا عبد الله يعني ابن مسعود «أنه محمد صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح» وبهذا قال ابن عباس والحسن وقتادة، وقال آخرون: دنا الرب عز وجل من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى فقرب منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، ومعنى دنوه تعالى: قرب منزلة كقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه تبارك وتعالى «من تقرّب إليّ شبراً تقرّبت إليه ذراعاً ومن تقرّب إليّ ذراعاً