أي لا تجهروا له بالقول كما تجهرون لنظرائكم بل اجعلوا كلمته عليا ثم حذرهم بقوله تعالى: {أن} أي: كراهة أن {تحبط} أي: تفسد فتسقط {أعمالكم} التي هي الأعمال بالحقيقة، وهي الحسنات كلها {وأنتم لا تشعرون} أي: بأنها حبطت فإنّ ذلك إذا أجترأ الإنسان عليه استخف به وإذا استخف واظب عليه، وإذا واظب عليه أو شك أن يستخف بالمخاطب فيكفر وهو لا يشعر، روى أنس بن مالك قال: «لما نزل قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم} الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار واحتبس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأن ثابت اشتكى فقال سعد: إنه لجاري وما علمت له شكوى قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ثابت: نزلت هذه الآية وقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا من أهل النار. فذكر ذلك سعد لنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال بل هو من أهل الجنة» .
وروي لما نزلت هذه الآية «قعد ثابت في الطريق يبكي فمّر به عاصم بن عدي فقال: وما يبكيك يا ثابت. قال: هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فيّ وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي وأكون من أهل النار فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلب ثابتاً البكاء فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبيّ ابن سلول فقال لها: إذا دخلت بيت فرشي فسدّي عليّ الضبة بمسمار فضربت عليه بمسمار وقال لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره فقال: اذهب فادعه لي فجاءه عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجده، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرش.
فقال له: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك. فقال: اكسر الضبة فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يبكيك يا ثابت فقال: أنا ميت فأخاف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة. فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله لا أرفع صوتي أبداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل.
{إنّ الذين يغضون} أي: يخفضون ويلينون لما وقع عليهم من السكينة من هيبة حضرته قال الطبريّ وأصل الغض الكف في لين {أصواتهم} تخشعاً وتخضعاً ورعايةً للأدب وتوقيراً {عند رسول الله} أي الذي من شأنه أن يعلو كلامه على كل كلام، لأنه مبلغ عن الملك الأعظم وعبر بعند الذي للظاهر إشارة إلى أنّ أهل حضرة الخصوصية لا يقع منهم إلا أكمل الأدب {أولئك} أي عالو الرتبة {الذين امتحن الله} أي: فعل المحيط بجميع صفات الكمال فعل المختبر {قلوبهم للتقوى} أي: اختبرها وأخلصها لتظهر منهم من امتحن الذهب إذا أذابه وميز إبريزه من خبثه. فإنّ الامتحان اختبار بليغ يؤدّي إلى خبر فالمعنى أنه طهر قلوبهم ونقاها كما يمتحن الصائغ الذهب والفضة بالإذابة والتنقية والتخليص من كل غش لأجل إظهار ما بطن فيها من التقوى ليصير معلوماً للخلق في عالم الشهادة، كما كان له سبحانه في عالم الغيب. {لهم مغفرة} أي: لهفواتهم وزلاتهم {وأجر عظيم} لغضهم وسائر