والحال أنهم {كفار فلن يغفر الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال الذي يمنع من تسوية المسيء بالمحسن {لهم} فلا يمحو ذنوبهم ولا يستر عيوبهم، بل يفضح سرائرهم ويردّهم على أعقابهم في كل ما يتقلبون فيه، لأنهم قد أبطلوا أعمالهم بالخروج عن دائرة الطاعة فلم يبق لهم ما يغفر لهم تسببه، وقد دلت هذه الآية على ما دلت عليه آية البقرة من أنّ إحباط العمل في المرتدّ مشروط بالموت على الكفر قيل: نزلت في أصحاب القليب قال الزمخشريّ: والظاهر العموم ثم رغب تعالى في لزوم الجهاد محذراً من تركه بقوله تعالى:
{فلا تهنوا} أي: تضعفوا ضعفاً يؤدّي بكم إلى الهوان والذلّ {وتدعوا} أعداءكم {إلى السلم} أي: المسالمة وهي الصلح {وأنتم} أي: والحال أنكم {الأعلون} أي: الظاهرون الغالبون قال الكلبي: آخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات. وأصل الأعلون الأعليون فأعلّ وقرأ حمزة وشعبة بكسر السين والباقون بفتحها ثم عطف على الحال قوله تعالى {والله} أي: الملك الأعظم الذي لا يعجزه شيء ولا كفء له {معكم} أي: بنصره ومعونته وجميع ما يفعله الكريم إذا كان مع عبده ومن علم أنه سيده وعلم أنه قادر على ما يريد لم يبال بشيء أصلاً {ولن يتركم} أي: ينقصكم {أعمالكم} أي: ثوابها كما يفعل مع أعدائكم في إحباط أعمالهم، لأنكم لم تبطلوا أعمالكم بجعل الدنيا محط أمركم.
{إنما الحياة} وأشار إلى دناءتها تنفيراً عنها بقوله: {الدنيا} أي: الاشتغال بها {لعب} أي: أعمال ضائعة سافلة تزيد في السرور ما يسرع اضمحلاله فيبطل من غير ثمرة {ولهو} أي: مشغلة يطلب بها إثارة اللذة كالغناء {وإن تؤمنوا وتتقوا} أي: تخافوا فتجعلوا بينكم وبين غضبه سبحانه وتعالى وقاية من جهاد أعدائه، وذلك من أعمال الآخرة {يؤتكم} أي: الله سبحانه الذي فعلتم ذلك من أجله في الدار الآخرة {أجوركم} أي: ثواب كل أعمالكم ببنائها على الأساس، ولأنه غنيّ لا ينقصه الإعطاء {ولا يسألكم} أي: الله في الدنيا {أموالكم} أي: لنفسه ولا كلها لغيره، بل يقتصر على جزء يسير مما تفضل به عليكم كربع العشر وعشره.
{إن يسألكموها} أي: كلها {فيحفكم} أي: يبالغ في سؤالكم ويبلغ فيه الغاية حتى يستأصلها فيجهدكم بذلك، فالإحفاء المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء يقال: أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح، وأحفى شاربه استأصله {تبخلوا} فلا تعطوا شيئاً {ويخرج أضغانكم} أي: ما تضغنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم والضمير في يخرج لله تعالى أو الرسول أو السؤال، أو البخل، واقتصر عليه الجلال المحلي، قال قتادة: علم الله تعالى أنّ في مسألة الأموال خروج الأضغان يعني ما طلبها ولو طلبها وألح عليكم في الطلب لبخلتم كيف وأنتم تبخلون باليسير فكيف لا تبخلون بالكثير.
{هاأنتم} وحقر أمرهم بقوله تعالى: {هؤلاء} أي: أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون، وقوله تعالى {تدعون لتنفقوا في سبيل الله} أي: الملك الأعظم الذي يرجى خيره ولا يخشى غيره استئناف مقرّر لذلك أو صلة لهؤلاء على أنه بمعنى الذين وهو يعم نفقة الغزو والزكاة وغيرها {فمنكم من يبخل} أي: ناس يبخلون، وحذف القسم الآخر وهو ومنكم من يجود، لأنّ المراد الاستدلال على ما قبله من البخل ولما كان بخله عمن أعطاه المال بجزء يسير منه إنما طلبه لينفع المطلوب منه فقط زاد العجب بقوله تعالى: {ومن} أي: