{يقولون آمنا به} وهذا قول مجاهد والربيع وعلى هذا يكون قوله: {يقولون} حالاً معناه والراسخون في العلم قائلين: آمنا به، وذهب الأكثرون إلى أن الواو في قوله: والراسخون واو الاستئناف وتم الكلام عند قوله: {وما يعلم تأويله إلا الله} وهو قول أبي بن كعب وعائشة وغيرهما وقالوا: لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ويجوز أن يكون للقرآن تأويل استأثر الله بعلمه لم يطلع عليه أحداً من خلقه كما استأثر بعلم الساعة ووقت طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال، وعدد الزبانية، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ونحوها والخلق متعبدون في المتشابه بالإيمان به، وفي المحكم بالإيمان به والعمل. وقال عمر بن عبد العزيز في هذه انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا: آمنا به قال في «الكشاف» : والأوّل هو الأوجه اه.
ووجهه شيخنا القاضي زكريا بقوله: لأنّ المتشابه على الثاني يصير الخطاب به كالخطاب بالمهملات اه.
ومع هذا فالوجه هو الثاني؛ لأنه أشبه بظاهر الآية ويدل له وجوه: أحدها أنه ذمّ طالب المتشابه بقوله تعالى: {فأمّا الذين في قلوبهم زيغ} الآية وثانيها: أنه مدح الراسخين في العلم بأنهم يقولون: آمنا به وقال في أوّل البقرة: {فأمّا الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم} (البقرة، 26) فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح؛ لأنّ كل من عرف شيئاً على سبيل التفصيل فلا بد أن يؤمن به وثالثها: لو كان قوله والراسخون معطوفاً لصار قوله: يقولون آمنا به ابتداء وهو بعيد عن الفصاحة، وكان الأولى أن يقال وهم يقولون أو يقال ويقولون.
فإن قيل: في تصحيحه وجهان: الأوّل: أن يقولون خبر مبتدأ والتقدير هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا. الثاني: أن يكون يقولون حالاً من الراسخون. أجيب: بأنّ الأوّل مدفوع بأنّ تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى إضمار أولى، والثاني أنّ ذا الحال هو الذي تقدّم ذكره وهم الراسخون فوجب أن يكون قوله: آمنا به حالاً من الراسخون لا من الله وذلك ترك للظاهر، ورابعها: قوله تعالى: {كل} أي: من المحكم والمتشابه {من عند ربنا} معناه أنهم آمنوا بما عرفوا تفصيله وبما لم يعرفوا تفصيله ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل لم يبق لهذا الكلام فائدة، وخامسها: نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير لا يسع أحداً جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى، وسئل مالك بن أنس رضي الله تعالى عنهما عن قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} (طه، 5) فقال: الإستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.
فإن قيل: ما الفائدة في لفظ عند، ولو قال كل من ربنا لحصل المقصود؟ أجيب: بأنّ الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد التأكيد.
فإن قيل: لم حذف المضاف إليه من كل؟ أجيب: بأنّ دلالته على المضاف إليه قوية فالأمن من اللبس بعد الحذف حاصل {وما يذكر} بإدغام التاء في الأصل في الذال أي: ما يتعظ بما في القرآن {إلا أولو الألباب} أي: أصحاب العقول.I
تنبيه: وجه اتصال هذه الآية وأوّلها {هو الذي أنزل عليك الكتاب} بما قبلها وأوّلها {هو الذي يصوّركم في الأرحام} أنه لما بين أنه قيوم وهو القائم بمصالح الخلق والمصالح قسمان: جسماني وروحاني،