في مخالفة أمره ونهيه {ويعلمكم الله} أحكامه المتضمنة لمصالحكم {وا بكل شيء عليم} كرّر لفظ الله في الجمل الثلاث لاستقلالها، فإنّ الأولى حث على التقوى، والثانية وعد بإنعامه، والثالثة تعظيم الله لشأنه عز وجل، ولأنه أدخل في التعظيم من الضمير وهذا آخر آية الدين، وقد حث سبحانه وتعالى فيها على الاحتياط في أمر الأموال لكونها سبباً لمصالح المعاش والمعاد قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} (النساء، 5) الآية.
قال القفال رحمه الله تعالى: ويدلّ على ذلك أنّ ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار. وفي هذه الآية بسط شديد ألا ترى أنه قال: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} ثم قال ثانياً: وليكتب بينكم كاتب بالعدل، ثم قال ثالثا: {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله} فكان هذا كالتكرار لقوله: {وليكتب بينكم كاتب بالعدل} لأنّ العدل هو ما علمه الله، ثم قال رابعاً: فليكتب وهذا إعادة للأمر الأوّل ثم قال خامساً: {وليملل الذي عليه الحق} وفي قوله تعالى: وليكتب بينكم كاتب بالعدل كناية عن قوله: {وليملل الذي عليه الحق} لأنّ الكاتب بالعدل إنما يكتب ما يملى عليه، ثم قال سادساً: {وليتق الله ربه} وهذا تأكيد ثم قال سابعاً: {ولا يبخس منه شيئاً} وهذا كالمستفاد من قوله: {وليتق الله ربه} ثم قال ثامناً: {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله} وهو أيضاً تأكيد لما مضى ثم قال تاسعاً: {ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا} فذكر هذه الفوائد التالية لتلك التأكيدات السالفة وكل ذلك يدل على المبالغة، في التوصية بحفظ المال الحلال وصونه عن الهلاك ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله والإعراض عن مساخط الله تعالى من الربا وغيره والمواظبة على تقوى الله.
{وإن كنتم على سفر} أي: مسافرين وتداينتم، فعلى بمعنى في لئلا يتوهم أن المعنى على نية سفر {ولم تجدوا كاتباً فرهان} أي: فعليكم رهن {مقبوضة} تستوثقون بها وبينت السنة جواز الرهن في الحضر ومع وجود الكاتب، فقد رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه في المدينة من يهوديّ بعشرين صاعاً من شعير أخذه لأهله» فالتقييد بما ذكر؛ لأنّ التوثق به أشدّ، وعن مجاهد والضحاك أنهما لم يجوزاه إلا في السفر أخذاً بظاهر الآية.
وأفاد قوله تعالى: {مقبوضة} اشتراط القبض أي: في لزوم الرهن لا في صحته والإكتفاء به من المرتهن ووكيله ولا يشترط القبض عند مالك، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضمّ الراء والهاء ولا ألف بعدها والباقون بكسر الراء وفتح الهاء وألف بعدها وكلاهما جمع رهن بمعنى مرهون {فإن أمن بعضكم} أي: الدائن {بعضاً} أي: المديون واستغنى بأمانته عن الإرتهان {فليؤدّ الذي ائتمن} أي: المدين {أمانته} أي: دينه سماه أمانة لائتمانه عليه بترك الإرتهان به، وقرأ ورش فليودّ بإبدال الهمزة واواً وإذا وصل السوسي وورش الذي بائتمن أبدلا الهمزة ياء وفي الابتداء بهمزة مضمومة للجميع {وليتق الله ربه} في الخيانة وإنكار الحق وفيه مبالغات من حيث الإتيان بصيغة الأمر الظاهرة في الوجوب والجمع بين ذكر الله والرب وذكره عقب الأمر بأداء الدين {ولا تكتموا الشهادة} أيها الشهود إذا دعيتم لإقامتها أو المديونون، وعلى هذا فشهادتهم إقرارهم على أنفسهم {ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} .
فإن قيل: هلا اقتصر على قوله فإنه آثم وما فائدة ذكر القلب؟ ـ والجملة هي الآثمة لا القلب وحده ـ أجيب: بأن كتمان الشهادة