أي: ينتقمون ممن ظلمهم بمثل ظلمه، كما قال تعالى:

{وجزاء سيئة سيئة مثلها} سميت الثانية سيئة لمشابهتها للأولى في الصورة قال مقاتل: يعني القصاص وهي الجراحات والدماء، وقال مجاهد والسدي: هو جواب القبيح إذا قال: أخزاك الله يقول: أخزاك الله وإذا شتمك فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي، قال سفيان بن عيينة: سألت سفيان الثوري عن ذلك فقال: إن شتمك رجل فتشتمه أو يفعل كذا فتفعل به فلم أجد عنده شيئاً، فسأل هشام بن حجر عن ذلك فقال: الجارح إذا جرح يقتص منه وليس هو أن يشتمك وتشتمه وقد تكفلت هذه الجمل بأمهات الفضائل الثلاث، العلم والعفة والشجاعة على أحسن الوجوه، فالمدح بالاستجابة والصلاة دعاء إلى العلم وبالنفقة إلى العفة وبالانتصار إلى الشجاعة حتى لا يظن أن إذعانهم لما مضى مجرد ذل، والقصر على المماثلة دعاء إلى فضيلة التقسيط بين الكل وهي العدل، وهذه الأخيرة كافلة بالفضائل الثلاث فإن من علم المماثلة كان عالماً، ومن قصد الوقوف عندها كان عفيفاً ومن قسر نفسه على ذلك كان شجاعاً وقد ظهر من المدح بالانتصار بعد المدح بالغفران أن الأول: للعاجز، والثاني: للمتغلب المتكبر بدليل البغي، فإن قيل: هذه الآية مشكلة لوجهين؛ الأول: أنه لما ذكر قبله {وإذا ما غضبوا هم يغفرون} ، كيف يليق أن يذكر معه ما يجري مجرى الضد له وهو {الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} ، الثاني: أن جميع الآيات دالة على أن العفو أحسن، قال تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} (البقرة: 237)

وقال تعالى: {وإذا مروا باللغو مروا كراماً} (الفرقان: 72)

وقال تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف: 199)

أجيب: بأن العفو على قسمين؛ أحدهما: أن يصير العفو سبباً لتسكين الفتنة ورجوع الجاني عن جنايته، والثاني: أن يصير العفو سبباً لمزيد جراءة الجاني وقوة غيظه وغضبه، فآيات العفو محمولة على القسم الأول وهذه الآية محمولة على القسم الثاني، وحينئذ يزول التناقض روي: «أن زينب أقبلت على عائشة تشتمها فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عنها فلم تنته، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم سبيها» . وأيضاً فإنه تعالى لم يرغِّب ففي الانتصار بل بين أنه مشروع فقط، ثم بين أن مشروعيته مشروطة برعاية المماثلة بقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} ثم بين أن العفو أولى بقوله تعالى: {فمن عفا} أي: بإسقاط حقه كله أو بالنقص منه لتحقق البراءة مما حرم من المجاوزة {وأصلح} أي: أوقع الإصلاح بين الناس بالعفو والإصلاح لنفسه ليصلح الله ما بينه وبين الناس فيكون بذلك منتصراً من نفسه لنفسه {فأجره على الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال فهو يعطيه على حسب ما يقتضيه مفهوم هذا الاسم الأعظم، وهذا سر لفت الكلام إليه عن مظهر العظمة وقوله صلى الله عليه وسلم «ما زاد الله بعفو إلا عزاً» {إنه لا يحب الظالمين} أي: لا يكرم الواضعين للشيء في غير محله فيترتب عليهم عقابه.

{ولمن انتصر} أي: سعى في نصر نفسه بجهده {بعد ظلمه} أي: بعد ظلم الغير له وليس قاصداً التعدي عن حقه ولو استغرق انتصاره جميع زمان التعدي {فأولئك} أي: المنتصرون لأجل دفع الظالم عنهم {ما عليهم} وأكد بإثبات الجار فقال تعالى: {من سبيل} أي: عتاب ولا عقاب لأنهم فعلوا ما أبيح لهم من الانتصار روى النسائي عن عائشة قالت: «ما علمت حتى دخلت على زينب وهي غضبى، فأقبلت علي فأعرضت

طور بواسطة نورين ميديا © 2015