في التناقص والانقضاء.
قال الرازي في اللوامع: أهل الإرادة على أصناف مريد الدنيا ومريد الآخرة ومريد الحق جل وعلا، وعلامة إرادة الدنيا أن يرضى في زيادة دنياه بنقص دينه والإعراض عن فقراء المسلمين وأن تكون حاجاته في الدنيا مقصورة على الدنيا، وعلامة إرادة الآخرة بعكس ذلك، وأما علامة إرادة الله تعالى كما قال تعالى: {يريدون وجهه} (الكهف: 28)
فطرح الكونين والعزلة عن الخلق والخلاص من يد النفس انتهى. وحاصله: أن يستغرق أوقاته في التوفية بحقوق الحق وحقوق الخلق وتزكية النفس لا طمعاً في جنة ولا خوفاً من نار بل امتثالاً لأجل الملك الأعلى لأنه أهل لذلك، مع اعترافه بأنه لن يقدر الله تعالى حق قدره.
ولما بين تعالى أعمال الآخرة والدنيا أتبعه بيان ما هو الأصل في باب الضلالة والشقاوة فقال تعالى:
{أم} أي: بل {لهم} أي: كفار مكة {شركاء} أي: على زعمهم وهم شياطينهم {شرعوا} أي: سنوا بالتزيين {لهم} أي: الكفار {من الدين} أي: الفاسد في العبادات والعادات {ما لم يأذن به الله} أي: الملك الذي لا أمر لأحد معه كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا، وقيل: شركاؤهم أوثانهم، وإنما أضيفت إليهم لأنهم هم الذين اتخذوها شركاء لله، ولما كانت سبباً لضلالهم جعلت شارعة لدين ضلالتهم، كما قال إبراهيم عليه السلام {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس} (إبراهيم: 36)
وقال ابن عباس: شرعوا لهم ديناً غير دين الإسلام {ولولا كلمة الفصل} أي: القضاء السابق بتأخير الجزاء أو لولا الوعد بأن الفصل يكون بينهم يوم القيامة {لقضي بينهم} أي: بين الذين امتثلوا أمره والتزموا شرعه وبين الذين اتبعوا ما شرعوه لمن سموهم شركاء في أقرب وقت، ولكنه قد سبق القضاء في الأزل بمقادير الأشياء وتحديدها على وجوه الحكمة فهي تجري على ما حد لها لا يتقدم شيء منها ولا يتاخر ولا يتبدل ولا يتغير وستنكشف لهم الأمور وتظهر مخبآت المقدور فلا يقع الفصل إلا في الآخرة كما سبق القضاء {وإن الظالمين} بشرع ما لم يأذن به الله من الشرك وغيره {لهم عذاب أليم} أي: مؤلم بليغ إيلامه، ثم إنه تعالى ذكر أحوال أهل العقاب وأحوال أهل الثواب مبتدئاً بالأول منهما بقوله تعالى:
{ترى} أي: في ذلك اليوم {الظالمين} أي: الواضعين الأشياء في غير مواضعها {مشفقين} أي: خائفين أشد الخوف كما هو الحال من يحاسبه من هو أعلى منه وهو مقصر {مما كسبوا} أي: عملوا معتقدين أنه غاية ما ينفعهم {وهو} أي: جزاؤه ووباله الذي من جنسه حتى كأنه هو {واقع بهم} لا محالة سواء أشفقوا أم لم يشفقوا، ثم ذكر الثاني بقوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} وهي التي أذن الله تعالى فيها غير خائفين مما كسبوا لأنهم مأذون لهم في فعله وهو مغفور لهم ما فرطوا فيه {في روضات الجنات} أي: في الدنيا بما يلذذهم به الله تعالى من لذائذ الأقوال والأفعال والمعارف والأحوال، وفي الآخرة حقيقة بلا زوال، وروضة الجنة أطيب بقعة فيها، وفيه تنبيه على أن عصاة المؤمنين من أهل الجنة لأنه خص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأنهم في روضات الجنات وهي: البقاع الشريفة من الجنة فالبقاع التي دون تلك الروضات لا بد وأن تكون مخصوصة بمن كان دون الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقوله تعالى: {لهم ما يشاؤون عند ربهم} يدل على أن تلك الأشياء حاضرة عنده