وحده {السميع} أي: لأقوالهم {البصير} أي: لأفعالهم.

ولما وصف تعالى جدالهم في الآيات بأنه بغير سلطان ولا حجة ذكر لهذا مثالاً فقال:

{لخلق السموات} أي: على عظمها وارتفاعها وكثرة منافعها واتساعها {والأرض} أي: على ما ترون من عجائبها وكثرة منافعها {أكبر} عند كل من يعقل {من خلق الناس} أي: خلق الله تعالى لهم لأنهم شعبة يسيرة من خلقهما فعلم قطعاً أن الذي قدر على ابتدائه مع عظمه قادر على إعادة الناس على حقارتهم {ولكن أكثر الناس} وهم الذين ينكرون البعث وغيره {لا يعلمون} أي: لا علم لهم أصلاً بل هم كالبهائم لغلبة الغفلة عليهم.

تنبيه: تقدير هذا الكلام أن الاستدلال بالشيء على غيره ينقسم ثلاثة أقسام؛ أحدها: أن يقال لما قدر على الأضعف وجب أن يقدر على الأقوى وهذا فاسد. ثانيها: أن يقال لما قدر على الشيء قدر على مثله فهذا الاستدلال صحيح لما ثبت في الأصول أن حكم الشيء حكم مثله. ثالثها: أن يقال لما قدر على الأقوى الأكمل قدر على الأقل الأرذل بالأولى، وهذا الاستدلال في غاية الصحة والقوة ولا يرتاب فيه عاقل البتة ثم إن هؤلاء القوم يسلمون أن خالق السموات والأرض هو الله تعالى ويعلمون بالضرورة أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، وكان من حقهم أن يقروا بأن القادر على خلق السموات والأرض يكون قادراً على إعادة الإنسان الذي خلقه أولاً فهذا برهان كلي في إفادة هذا المطلوب، ثم إن هذا البرهان على قوته صار لا يعرفه أكثر الناس، والمراد منه: الذين ينكرون الحشر والنشر فظهر بهذا المثال أن هؤلاء الكفار يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم ولا حجة بل بمجرد الحسد والكبر والغضب.

ثم لما بين تعالى أن الجدال المقرون بالكبر والحسد والجهل كيف يكون وإن الجدال بالحجة والبرهان كيف يكون نبه تعالى على الفرق بين البيانين بذكر مثال فقال تعالى:

{وما يستوي} أي: بوجه من الوجوه من حيث البصر {الأعمى والبصير} أي: وما يستوي المستدل والجاهل المقلد {والذين آمنوا} أي: أوجدوا حقيقة الإيمان {وعملوا الصالحات} أي: تحقيقاً لإيمانهم {ولا المسيء} أي: وما يستوي المحسن والمسيء فلا زائدة للتوكيد لأنه لما طال الكلام بالصلة بعد قسم المؤمنين أعاد معه لا توكيداً، والمراد بالأول: التفاوت بين العالم والجاهل، وبالثاني: التفاوت بين الآتي بالأعمال الصالحة وبين الآتي بالأعمال السيئة الباطلة.

ولما تقرر هذا على هذا النحو من الوضوح الذي لا مانع للإنسان من فهمه ورسوخه قال تعالى: {قليلاً ما يتذكرون} أي: يتعظ المجادلون وإن كانوا يعلمون أن العلم خير من الجهل وأن العمل الصالح خير من العمل الفاسد إلا أنه قليلاً ما يتذكرون، فبين في النوع الأول المعنى من الاعتقاد أنه علم أو جهل وفي النوع الثاني المعنى من العمل أنه عمل صالح أو فاسد.

تنبيه: التقابل يأتي على ثلاث طرق؛ إحداها: أن يجاور المناسب ما يناسبه كهذه الآية. والثانية: أن يتأخر المتقابلان كقوله تعالى: {مثل الفريقين} كالأعمى والأصم والبصير والسميع. الثالثة: أن يقدم مقابل الأول ويؤخر مقابل الآخر كقوله تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور} (فاطر: 19 ـ 20)

كل ذلك تفنن في البلاغة، وقدم الأعمى في نفي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015