فعوقبتم لذلك.
ولما كان السياق لأن الأمر بيد الله تعالى، فلا هادي لمن يضل ولا مضل لمن هدى فهو يهدي البعيد في البقعة والنسب إذا أراد، ويضل القريب فيهما إذا أراد وكان بعد الدار ملزوماً في الغالب لبعد النسب قدّم مكان المجيء على فاعلة بياناً لأن الدعاء نفع الأقصى ولم ينفع الأدنى فقال تعالى:
{وجاء من أقصى} أي: أبعد بخلاف ما مر في القصص ولأجل هذا الغرض عدل عن التعبير بالقرية وقال {المدينة} لأنها أدل على الكبر المستلزم بعد الأطراف وجمع الأخلاط ولما بين الفاعل بقوله تعالى: {رجل} بين اهتمامه بالنهي عن المكر ومسابقته إلى إزالته كما هو الواجب بقوله تعالى: {يسعى} أي: يسرع في مشيه فوق المشي ودون العدو حرصاً على نصيحة قومه.
تنبيه: في تنكير الرجل مع أنه كان معلوماً معروفاً عند الله تعالى فيه فائدتان، الأولى: أن يكون تعظيماً لشأنه أي: رجل كامل في الرجولية، الثانية: أن يكون مفيداً ليظهر من جانب المرسلين أمر رجل من الرجال لا معرفة لهم به فلا يقال: إنهم تواطؤوا، والرجل هو حبيب النجار كان ينحت الأصنام، وقال السدي: كان قصاراً، وقال وهب: كان يعمل الحرير وكان سقيماً قد أسرع فيه الجذام وكان منزله عند أقصى باب في المدينة، وكان مؤمناً وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل وجوده حين صار من العلماء بكتاب الله تعالى ورأى فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم وبعثته وقوله: {يسعى} تبصير للمسلمين وهداية لهم ليبذلوا جهدهم في النصح.
ولما تشوفت النفس إلى الداعي إلى إتيانه بينه بقوله تعالى:
{قال} واستعطفهم بقوله تعالى: {يا قوم} وأمرهم بمجاهدة النفوس بقوله {اتبعوا المرسلين} أي: في عبادة الله تعالى وحده، فجمع بين إظهار دينه وإظهار النصيحة فقوله {اتبعوا} النصيحة وقوله {المرسلين} إظهار إيمانه، وقدم إظهار النصيحة على إظهار الإيمان؛ لأنه كان ساعياً في النصيحة، وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل وقوله {يسعى} دل على إردته النصح.
فإن قيل: ما الفرق بين مؤمن آل فرعون حيث قال: {اتبعون أهدكم} (غافر: 38)
وهذا قال: {اتبعوا المرسلين} ؟ أجيب: بأن هذا الرجل جاءهم وفي أول مجيئه نصحهم ولم يعلموا سيرته فقال: اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لكم السبيل، وأما مؤمن آل فرعون فكان فيهم ونصحهم مراراً فقال: اتبعوني في الإيمان بموسى وهرون عليهما السلام، واعلموا أنه لو لم يكن خيراً لما اخترته لنفسي وأنتم تعلمون أني اخترته ولم يكن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يعلمون اتباعه لهم.
ولما قال لهم: اتبعوا المرسلين كأنهم منعوا كونهم مرسلين فنزل درجة وقال:
{اتبعوا من لا يسألكم أجراً} أي: أجرة؛ لأن الخلق في الدنيا سالكون طريق الاستقامة، والطريق إذا كان فيه دليل وجب اتباعه وعدم الاستماع من الدليل لا يحسن إلا عند أحد أمرين: إما لطلب الدليل الأجرة، وإما: لعدم الاعتماد على اهتدائه ومعرفة الطريق لكن هؤلاء لا يطلبون أجرة {وهم مهتدون} عالمون بالطريق المستقيم الموصلة إلى الحق فهب أنهم ليسوا بمرسلين أليسوا بمهتدين؟ فاتبعوهم وقوله تعالى:
{ومالي لا أعبد الذي فطرني} أصله: وما لكم لا تعبدون ولكنه صرف الكلام عنه ليكون الكلام أسرع قبولاً حيث أراد لهم ما أراد لنفسه والمراد: تقريعهم على تركهم عبادة خالقهم إلى عبادة غيره ولذلك قال {وإليه