الملازمة المفهومة من هذه الآلة أعني الغل. وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء، والباقون بكسرها والأذقان جمع ذقن وهو مجمع اللحيين {فهم مقمحون} أي: رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم في أنهم لا يلتفتون لفتة إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطؤن رؤوسهم له، والإقماح رفع الرأس إلى فوق كالإقناع وهو من قمح البعير رأسه إذا رفعها بعد الشرب إما لبرودة الماء، وإما لكراهة طعمه.
ولما كان الرافع رأسه غير ممنوع من النظر أمامه قال تعالى:
{وجعلنا} أي: بعظمتنا {من بين أيديهم} أي: الوجه الذي يمكنهم عمله {سداً} فلا يسلكون طريق الاهتداء.
ولما كان الإنسان إذا انسدت عليه جهة مال إلى أخرى قال تعالى {ومن خلفهم} أي: الوجه الذي هو خفي عنهم {سداً} فلا يرجعون إلى الهداية فصارت كل جهة يلتفتون إليها منسدة فصاروا لذلك لا يمكنهم النظر إلى الحق، ولا الخلوص إليه، فلذلك قال تعالى {فأغشيناهم} أي: جعلنا على أبصارهم بما لنا من العظمة غشاوة {فهم} أي: بسبب ذلك {لا يبصرون} أي: لا يتجدد لهم هذا الوصف من إبصار الحق وما ينفعهم بصر ظاهر ولا بصيرة باطنة، وأيضاً الإنسان مبدؤه من الله تعالى ومصيره إليه فعمى الكافرين بأن لا يبصروا ما بين أيديهم من المصير إلى الله تعالى، وما خلفهم من الدخول في الوجود بخلق الله تعالى كمن أحاط بهم سد فغطى أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم ووراءهم في أنهم محبوسون في مطمورة الجهالة ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل، وأيضاً فإن السالك إذا لم يكن له بد من سلوك طريق فإن انسد الطريق الذي قدامه يفوته المقصد ولكنه يرجع، فإذا انسد الطريق من خلفه ومن قدامه والموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامته هلك.
فإن قيل: ذكر السد من بين الأيدي ومن الخلف ولم يذكره من اليمين والشمال فما الحكمة في ذلك؟ أجيب: بأنهم إذا قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء فصار ما إليه توجههم ما بين أيديهم، فيجعل الله تعالى السد هناك فيمنعه من السلوك فكيفما توجه الكافر يجعل الله تعالى بين يديه سداً، وقرأ حمزة والكسائي وحفص سداً بفتح السين في الموضعين وهو لغة فيه، والباقون بالضم.
ولما منعوا بذلك حس البصر أخبر عن حس السمع بقوله تعالى:
{وسواء عليهم} أي: مستو ومعتدل غاية الاعتدال {أأنذرتهم} أي: بما أخبرناك به من الزواجر المانعة للكفر {أم لم تنذرهم لا يؤمنون} ؛ لأنهم ممن علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون، وقد سبق أيضاً في البقرة تفسيره والكلام على الهمزتين، ثم بين الله تعالى الأقل الناجي؛ لأنه المقصود بالذات بقوله تعالى:
{إنما تنذر} أي: إنذاراً ينفع المنذر فتتأثر عنه النجاة {من اتبع الذكر} أي: القرآن بالتأمل فيه والعمل به {وخشي الرحمن} أي: خاف عقابه {بالغيب} أي: قبل موته ومعاينة أهواله أو في سريرته ولا يغتر برحمته فإنه تعالى كما هو رحمن رحيم منتقم جبار {فبشره} أي: بسبب خشيته بالغيب {بمغفرة} أي: لذنوبه وإن عظمت وتكررت.
ولما حصل العلم بمحو الذنوب عينها وأثرها قال تعالى {وأجر كريم} أي: هو الجنة فإنها دار لا كدر فيها بوجه، والمقصود منها هو النظر لوجهه الكريم، اللهم متعنا ومحبينا بالنظر إلى وجهك الكريم.