المحفوظ يعني: الذي أوحينا من اللوح المحفوظ {هو الحق} أي: الكامل في الثبات ومطابقة الواقع، ويمكن أن يراد به القرآن وهو ما اقتصر عليه الجلال المحلي يعني: الإرشاد والتبيين اللذين أوحينا إليك من القرآن، ويمكن أن تكون من للتبعيض وهو فصل أو مبتدأ وقوله تعالى {مصدقاً لما بين يديه} أي: لما تقدمه من الكتب حال مؤكدة؛ لأن الحق لا ينفك عن هذا التصديق وهذا تقرير لكونه وحياً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يكن قارئاً كاتباً وأتى ببيان ما في كتاب الله لا يكون ذلك إلا بوحي من الله تعالى، فإن قيل: لم يجعل ما تقدم مصدقاً للقرآن؟ أجيب: بأن القرآن كونه معجزة يكفي تصديقه بأنه وحي وأما ما تقدم فلا بد فيه من معجزة تصدقه.
تنبيه: قوله تعالى {هو الحق} آكد من قول القائل الذي أوحينا إليك حق من وجهين: أحدهما: أن التعريف للخبر يدل على أن الأمر في غاية الظهور؛ لأن الخبر في الأكثر يكون نكرة. الثاني: أن الإخبار في الغالب يكون إعلاماً بثبوت أمر لا يعرفه السامع كقولنا: زيد قام فإن السامع ينبغي أن يكون عارفاً ولا يعلم قيامه فيخبر به، فإذا كان الخبر معلوماً فتكون الأخبار للنسبة فتعرف باللام كقولنا: إن زيداً العالم في هذه المدينة إذا كان علمه مشهوراً.
{إن الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {بعباده لخبير} أي: عالم أدق العلم وأتقنه ببواطن أحوالهم {بصير} أي: بظواهر أمورهم وبواطنها أي: فهو يسكن الخشية والعلم في القلوب على قدر ما أوتوا من الكتاب في علمه، فأنت أحقهم بالكمال؛ لأنك أخشاهم وأتقاهم فلذلك آتيناك هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب، وتقديم الخبير للدلالة على أن العمدة في ذلك الأمور الروحانية وقوله تعالى:
{ثم أورثنا الكتاب} في معناه وجهان: أحدهما: إنا أوحينا إليك القرآن ثم أورثناه من بعدك أي: حكمنا بتوريثه أو قال تعالى {أورثنا} وهو يريد نورثه فعبر عنه بالماضي لتحققه وقال مجاهد: أورثنا أعطينا؛ لأن الميراث إعطاء واقتصر على هذا الجلال المحلي، وقيل: أورثنا أخرنا ومنه الميراث؛ لأنه تأخر عن الميت ومعناه: أخرنا القرآن من الأمم السالفة وأعطيناكموه وأهلناكم له.
تنبيه: أكثر المفسرين على أن المراد بالكتاب القرآن، وقيل: إن المراد جنس الكتاب {الذين اصطفينا} أي: اخترنا {من عبادنا} قال ابن عباس رضي الله عنه: يريد بالعباد أمة محمد صلى الله عليه وسلم أي: من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة، ونقل ابن الجوزي عن ابن عباس رضي الله عنه أن الله تعالى أورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم كل كتاب أنزله أي: لأن الله تعالى اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس، وخصهم بكرامة الانتماء إلى أفضل رسله تعالى، وحمل الكتاب الذي هو أفضل كتب الله تعالى، ثم قسمهم بقوله تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه} أي: في التقصير بالعمل به {ومنهم مقتصد} أي: يعمل به في أغلب الأوقات {ومنهم سابق بالخيرات} وهو من يضم إلى العمل به التعليم والإرشاد إلى العمل.
روى أسامة بن زيد في هذه الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلهم من هذه الأمة» . وروى أبو عثمان النهدي قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ على المنبر {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} الآية