وغير ذلك من شأنه مختصاً بذلك كله حتى عن أمّه التي هي أقرب إليه فلا يكون إلا بقدرته فما شاء أتمه وما شاء أخرجه كمال علمه.

ثم بين نفوذ إرادته بقوله تعالى: {وما يعمر من معمر} أي: وما يمد في عمره من مصغره إلى كبر، وإنما سماه معمراً بما هو صائر إليه فمعناه: وما يعمر من أحد، وفي عود ضمير قوله تعالى {ولا ينقص من عمره} قولان: أحدهما: أنه يعود على معمر آخر؛ لأن المراد بقوله تعالى: {من معمر} الجنس فهو يعود عليه لفظاً لا معنى؛ لأنه بعد أن فرض كونه معمراً استحال أن ينقص من عمره نفسه كما يقال: لفلان عندي درهم ونصفه أي: نصف درهم آخر.

والثاني: أنه يعود على المعمر نفسه لفظاً ومعنى، والمعنى: أنه إذا ذهب من عمره حول أحصى وكتب ثم حول آخر كذلك فهذا هو النقص، وإليه ذهب ابن عباس وابن جبير وأبو مالك ومنه قول الشاعر:

*حياتك أنفاس تعد فكلما ... مضى نفس منك انتقصت به جزأ*

وقال الزمخشري: هذا من الكلام المتسامح فيه ثقة في تأويله بأفهام السامعين واتكالاً على تسديدهم معناه بعقولهم، وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد، وعليه كلام الناس المستفيض يقولون: لا يثيب الله عبداً ولا يعاقبه إلا بحق قال: وفيه تأويل آخر وهو: أنه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب، وصورته: أن يكتب في اللوح: إن حج فلان أو غزا فعمره أربعون سنة، وإن حج وغزا فعمره ستون سنة فإذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عمر، وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعون فقد نقص عن عمره الذي هو الغاية وهو الستون، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار» .

وعن كعب أنه قال حين طعن عمر رضي الله تعالى عنه: لو أن عمر دعا الله لأخر في أجله فقيل لكعب: أليس قد قال الله تعالى {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (الأعراف: 34)

فقال: هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد وينقص، وقرأ هذه الآية وقد استفاض على الألسنة: أطال الله تعالى بقاءك، وفسح في مدتك وما أشبهه.

وعن سعيد بن جبير: يكتب في الصحيفة عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب في أسفل ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى يأتي على آخره، وعن قتادة المعمر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة، والكتاب في قوله تعالى {إلا في كتاب} أي: مكتوب فيه عمر فلان كذا وكذا، وعمر فلان كذا إن عمل كذا وعمره كذا إن لم يعمل كذا هو اللوح المحفوظ قاله ابن عباس، قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بكتاب الله علم الله تعالى أو صحيفة الإنسان.

ولما كان ذلك أمراً لا يحيط به العد ولا يحصره الحد فكان في عداد ما ينكره الجهلة قال تعالى مؤكداً لسهولته {إن ذلك} أي: الأمر العظيم من كتب الآجال كلها وتقديرها {على الله} أي: الذي له جميع العزة {يسير} أي: هين. وقوله تعالى:

{وما يستوي البحران هذا عذب} أي: طيب حلو لذيذ ملائم طبعه {فرات} أي: بالغ العذوبة {سائغ شرابه} أي: شربه مرئ سهل انحداره لما له من اللذة والملايمة للطبع {وهذا ملح أجاج} أي: جمع إلى الملوحة المرارة فلا يسوغ شرابه بل لو شرب لآلم الحلق وأجج في البطن ما هو كالنار

طور بواسطة نورين ميديا © 2015