فقالت الشمال: إن الحرة لا تسري بالليل فكانت الريح التي أرسلت لهم الصبا لما روى ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» لأن الصبا ريح فيها روح ما هبت على محزون إلا زال حزنه {وجنوداً} أي: وأرسلنا جنوداً من الملائكة {لم تروها} وكانوا ألفاً ولم تقاتل يومئذ، فبعث الله عليهم تلك الليلة ريحاً باردة فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها على بعض، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيد كل حي يقول: يا بني فلان هلم إليَّ، وإذا اجتمعوا عنده قالوا: النجاء النجاء فانهزموا من غير قتال لما بعث الله تعالى عليهم من الرعب {وكان الله} أي: الذي له جميع صفات الجلال والجمال {بما يعملون} أي: الأحزاب من التحزب والتجمع والمكر وغير ذلك {بصيراً} أي: بالغ الإبصار والعلم.
تنبيه: قال البخاري: قال موسى بن عقبة: كانت غزوة الخندق وهي الأحزاب في شوال سنة أربع، روى محمد بن إسحاق عن مشايخه قال: دخل حديث بعضهم في بعض أن نفراً من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وهودة بن قيس، وأبو عمار الوائلي في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد فديننا خير أم دينه؟ قالوا: دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه فهم الذين قال الله تعالى فيهم: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} (النساء: 51)
إلى قوله تعالى: {وكفى بجهنم سعيراً} (النساء، 55)
فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمعوا على ذلك، ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاؤوا غطفان فدعوهم إلى ذلك وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشاً قد بايعوهم على ذلك، فأجابوهم فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة، وكان الذي أشار به على النبي صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسي رضي الله عنه وكان أول مشهد شهده سلمان رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ حُرٌّ فقال: يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى أكملوه وأحكموه، قال أنس رضي الله عنه: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم فلما رأى ما بهم من النصب والجزع قال:
*اللهم إن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة*
فقالوا مجيبين له:
*نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا*