هذه والمذكور قبلها هناك الآخرة حيث قال {يا حسرتنا على ما فرّطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} (الأنعام: 31)
فلم تكن الدنيا في ذلك الوقت في خاطرهم فقال تعالى: {وما الحياة الدنيا} ، فإن قيل ما الحكمة في تقديمه هناك اللعب على اللهو وههنا أخر اللعب عن اللهو؟ أجيب: بأنه لما كان المذكور من قبل هناك الآخرة وإظهارهم للحسرة ففي ذلك الوعد يبعد الاستغراق في الدنيا بل نفس الاشتغال بها فأخذ الأبعد، وههنا لما كان المذكور من قبل الدنيا وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها والاستغراق فيها، اللهمّ إلا لمانع يمنع من الاستغراق فيشتغل بها من غير استغراق فيها أو لعاصم يعصمه فلا يشتغل بها أصلاً وكان الاستغراق أقرب من عدمه فقدم اللهو، ولما كانوا ينكرون الحياة بعد الموت أخبر على سبيل التأكيد أنه لا حياة غيرها بقوله تعالى:
{وإن الدار الآخرة لهي} أي: خاصة {الحيوان} أي: الحياة التامّة الباقية، فإن قيل ما الحكمة في قوله تعالى هناك {ولدار الآخرة خير} وقال ههنا: {وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان} ؟ أجيب: بأنه لما كان الحاصل هناك حال إظهار الحسرة ما كان المكلف يحتاج إلى وازع قوي فقال: الآخرة خير، ولما كان الحال هنا حال الاشتغال بالدنيا احتاج إلى وازع قوي فقال لا حياة إلا حياة الآخرة، والحيوان مصدر حيي وقياسه حييان فقلبت الياء الثانية واواً وبه سمي ما فيه حياة حيواناً وهو أبلغ من الحياة لما في بناء فعلان من الحركة والاضطراب اللازم للحياة ولذلك اختير عليها ههنا، ولما كانوا قد غلطوا في الدارين كليهما فنزلوا كل واحدة منهما غير منزلتها فعدوا الدنيا وجوداً دائماً على هذه الحالة وعدوا الآخرة عدماً لا وجود لها بوجه قال تعالى: {لو كانوا يعلمون} أي: لم يؤثروا عليها الدنيا التي أصلها عدم الحياة والحياة فيها عارضة سريعة الزوال، فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى في الأنعام: {أفلا يعقلون} وقال ههنا: {لو كانوا يعلمون} ؟ أجيب: بأن المثبت هناك كون الآخرة خيراً ولأنه ظاهر لا يتوقف إلا على العقل والمثبت هنا أن لا حياة إلا حياة الآخرة وهذا دقيق لا يعرف إلا بعلم نافع.
{فإذا} أي: فتسبب عن عدم عقلهم المستلزم لعدم علمهم إنهم إذا {ركبوا} البحر {في الفلك} أي: السفن {دعوا الله} أي: الملك الأعلى {مخلصين} بالتوحيد {له الدين} معرضين عن الشركاء بالقلب واللسان حيث لا يذكرون إلا الله ولا يدعون سواه لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد إلا هو {فلما نجاهم} أي: الله سبحانه وتعالى موصلاً لهم {إلى البرّ إذا هم} أي: حين الوصول إلى البرّ {يشركون} كما كانوا فهذا إخبار عنهم بأنهم عند الشدائد مقرون أن القادر على كشفها هو الله عز وجل وحده فإذا زالت عادوا إلى كفرهم.
قال عكرمة: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا في البحر حملوا معهم الأصنام فإذا اشتدّ عليهم الريح ألقوها في البحر وقالوا يا رب يا رب، وقال الرازي في اللوامع: وهذا دليل على أن معرفة الرب في فطرة كل إنسان وأنهم إن غفلوا في السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء انتهى، فعلم أن الاشتغال بالدنيا هو الصادّ عن كل خير وأن الانقطاع عنها معين للفطرة الأولى المستقيمة ولهذا تجد الفقراء أقرب إلى كل خير، وفي اللام في قوله تعالى:
{ليكفروا بما آتيناهم} وجهان: أظهرهما أن اللام فيه لام كي أي: يشركون ليكونوا كافرين