{أولئك} أي: البعداء البغضاء {يئسوا} أي: متحققين يأسهم من الآن بل من الأزل لأنهم لم يرجوا لقاء الله يوماً ولا قال قائل منهم: ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين {من رحمتي} أي: من أن أفعل بهم من الإكرام بدخول الجنة وغيرها فعل الراحم {وأولئك لهم عذاب أليم} أي: مؤلم بالغ ألمه، فإن قيل هلا اكتفى بقوله تعالى: {أولئك} مرة واحدة؟ أجيب: بأن ذلك كرّر تفخيماً للأمر فاليأس وصف لهم لأنّ المؤمن دائماً يكون راجياً خائفاً، وأمّا الكافر فلا يخطر بباله رجاء ولا خوف.
وعن قتادة: أن الله تعالى ذمّ قوماً هانوا عليه فقال: {أولئك يئسوا من رحمتي} وقال {ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} (يوسف: 87)
فينبغي للمؤمن أن لا ييأس من روح الله ولا من رحمته وأن لا يأمن عذابه وعقابه، فصفة المؤمن أن يكون راجياً لله خائفاً ثم إنّ الله تعالى أخبر عن فظاظة قوم إبراهيم وتكبرهم بقوله تعالى:
{فما كان جواب قومه} لما أمرهم بالتوحيد وتقوى الله تعالى {إلا أن قالوا} أي: قال بعضهم لبعض أو قاله واحد منهم وكان الباقون راضين {اقتلوه أو حرّقوه} بالنار، فإن قيل كيف سمى قولهم اقتلوه أو حرّقوه جواباً مع أنه ليس بجواب؟ أجيب عنه من وجهين: أحدهما: أنه خرج مخرج كلام المتكبر كما يقول الملك لرسول خصمه جوابكم السيف مع أن السيف ليس بجواب وإنما معناه لا أقابل بالجواب وإنما أقابل بالسيف، وثانيهما: أن الله تعالى أراد بيان صلابتهم وأنهم ذكروا ما ليس بجواب في معرض الجواب فبين أنهم لم يكن لهم جواب أصلاً، وذلك أن من لا يجيب غيره وسكت لا يعلم أنه يقدر على الجواب أم لا لجواز أن يكون سكوته عن الجواب لعدم الالتفات، وأما إذا أجاب بجواب فاسد علم أنه قصد الجواب وما قدر عليه، ثم إنهم استقرّ رأيهم على الإحراق فجمعوا له حطباً إلى أن ملؤوا ما بين الجبال وأضرموا فيه النار حتى أحرقت ما دنا منها بعظيم الاشتعال وقذفوه فيها بالمنجنيق {فأنجاه الله} بما له من كمال العظمة {من النار} أي: من إحراقها وأذاها ونفعته بأن أحرقت وثاقه {إن في ذلك} أي: ما ذكر من أمره وما اشتملت عليه قصته من الحكم {لآيات} أي: براهين قاطعة على جميع أمر الله من تصرفه في الأعيان والمعاني لكون النار لم تحرقه وأحرقت وثاقه وكل ما مرّ عليها من طائر وإخمادها مع عظمتها في زمان يسير وإنشاء روض مكانها، وروي أنه لم ينتفع في ذلك اليوم الذي ألقي فيه إبراهيم عليه السلام بالنار وذلك لذهاب حرقها {لقوم يؤمنون} أي: يصدقون بتوحيد الله وقدرته لأنهم المنتفعون بالفحص عنها والتأمّل فيها.
{وقال} أي: إبراهيم عليه السلام غير هائب لتهديدهم بقتل أو غيره {إنما اتخذتم} أي: أخذتم باصطناع وتكلف وأشار إلى عظمة الله وعلوّ شأنه {من دون الله} الذي كل شيء تحت قهره {أوثاناً} أي: أصناماً تبعدونها وما مصدرية {مودّة بينكم} أي: تواددتم على محبتها {في الحياة الدنيا} بالاجتماع عندها والتواصل في أمرها بالتناصر والتعاضد كما يتفق ناس على مذهب فيكون ذلك سبب تصادقهم، وهذا دال على أن جمع الفسوق لأهل الدنيا هو العادة المستمرّة، وأن الحب في الله والاجتماع له عزيز جدّاً لما فيه من قطع علائق الدنيا وشهواتها التي زينت للناس على ما فيها من الإلباس