بالعفو عن العقاب أتم البشرى بالامتنان بالثواب فقال عاطفاً على ما تقديره ولنثبتنّ لهم حسناتهم {ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون} أي: أحسن جزاء ما عملوه وهو الصالحات، وأحسن نصب بنزع الخافض وهو الباء، ولما كان من جملة العمل الصالح الإحسان إلى الوالدين ذكر ذلك بقوله تعالى:
{ووصينا الإنسان بوالديه} أي: وإن عليا {حسناً} أي: برّاً بهما وعطفاً عليهما أي: وصيناه بإيتاء والديه حسناً أو بإيلاء والديه حسناً لأنهما سبب وجود الولد وسبب بقائه بالتربية المعتادة والله تعالى سبب له في الحقيقة بالإرادة وسبب بقائه بالإعادة للسعادة فهو أولى بأن يحسن العبد حاله معه، فيطيعهما ما لم يأمراه بمعصية الله تعالى كما قال: تعالى: {وإن جاهداك لتشرك بي} وقوله تعالى {ما ليس لك به علم} أي: لا علم لك بإلهيته موافق للواقع فلا مفهوم له أو أنه إذا كان لا يجوز أن يتبع فيما لا يعلم صحته فبالأولى أن لا يتبع فيما يعلم بطلانه {فلا تطعهما} في ذلك كما جاء في الحديث: «لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى» ولا بد من إضمار القول إن لم يضمر قبل، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إليّ مرجعكم} أي: من آمن منكم ومن كفر ومن برّ والديه ومن عق، ثم تسبب عنه قوله تعالى: {فأنبئكم بما كنتم تعلمون} أي: أخبركم بصالح أعمالكم وسيئها فأجازيكم عليها نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص الزهري وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس: «روي أنها لما سمعت بإسلامه قالت له: يا سعد بلغني أنك قد صبأت فوالله لا يظلني سقف بيت من الضِّح ـ وهو بكسر الضاد المعجمة وبحاء مهملة الشمس ـ والريح، وإن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد وكان أحب أولادها إليها فأبى سعد ولبثت ثلاثة أيام لا تنتقل من الضح ولا تأكل ولا تشرب فلم يطعها سعد بل قال: والله لو كانت مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما كفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم جاء سعد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وشكا إليه فنزلت هذه الآية وهي التي في لقمان والتي في الأحقاف فأمره صلى الله عليه وسلم «أنْ يداريها ويترضاها بالإحسان» .
وروي أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وذلك أنه هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما مترافقين حتى نزلا المدينة فخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام أخواه لأمّه أسماء بنت مخرمة امرأة من بني تميم بن حنظلة فنزلا بعياش وقالا له: إنّ من دين محمد صلة الأرحام وبرّ الوالدين وقد تركت أمك لا تأكل ولا تشرب ولا تأوي بيتاً حتى تراك وهي أشد حباً لك منا فاستشار عمر فقال: هما يخدعانك ولك عليّ أن أقسم مالي بيني وبينك فما زالا به حتى أطاعهما وعصى عمر فقال عمر: أمّا إذا عصيتني فخذ ناقتي فليس في الدنيا بعير يلحقها فإن رابك منهما ريب فارجع فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل: إن ناقتي قد كلت فاحملني معك قال: نعم فنزل ليوطئ لنفسه وله فأخذاه وشدّاه وأوثقاه وجلده كل واحد منهما مائة جلدة وذهبا به إلى أمه فقالت: لا تزال في عذاب حتى ترجع عن دين محمد فنزلت رضي تعالى الله عنه وأرضاه ونفعنا به في الدنيا والآخرة، ولما كان التقدير فالذين أشركوا وعملوا السيئات لندخلنهم في المفسدين ولكنه طواه لدلالة السياق عليه عطف عليه زيادة في الحث على الإحسان إلى الوالدين قوله تعالى:
{والذين آمنوا وعملوا} تحقيقاً لإيمانهم {الصالحات لندخلهم في الصالحين} أي: الأنبياء والأولياء بأن نحشرهم معهم، أو ندخلهم وهم