نفسه فإذا تفكروا قالوا ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون ذلك أدعى إلى القبول وأبعث إلى الاستماع منه، ولو قال فإنهم عدوّ لكم لم يكن بتلك المثابة ولأنه دخل في باب من التعريض وقد يبلغ التعريض للمنصوح ما لا يبلغه التصريح لأنه يتأمل فيه فربما قاده التأمّل إلى التقبل، ومنه ما يحكى عن الشافعيّ رضي الله عنه أن رجلاً واجهه بشيء فقال: لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب، وسمع رجل ناساً يتحدثون في الحجر فقال: ما هو ببيتي ولا ببيتكم، وقوله {إلا رب العالمين} أي: مدبر هذه الأكوان كلها يصح أن يكون استثناء منقطعاً بمعنى أنهم عدوّ لي لا أعبدهم لكن رب العالمين فإني أعبده، وأن يكون متصلاً على أن الضمير لكل معبود عبدوه وكان من آبائهم من عبد الله تعالى فكأنه قال إلا رب العالمين فإنه ليس بعدوّي بل هو ولي ومعبودي، ثم شرع يصفه بما هم به عالمون من أنه على الضدّ الأقصى من كل ما عليه أصنامهم بقوله:

{الذي خلقني} أي: أوجدني على هيئة التقدير والتصوير {فهو} أي: فتسبب عن تفرده بخلقي أنه هو لا غيره {يهدين} أي: إلى الرشاد ولا يعلم باطن المخلوق ويقدر على التصرف فيه غير خالقه ولا يكون خالقه إلا سميعاً بصيراً ضاراً نافعاً له الكمال كله وذكر الخلق بالماضي لأنه لا يتجدد في الدنيا، والهداية بالمضارعة لتجددها وتكرّرها، لأنه تعالى لما أتم خلقه ونفخ فيه الروح عقب ذلك هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى كل ما يصلحه ويعينه وإلا فمن هداه إلى أن يتغذى بالدم في البطن امتصاصاً؟ ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة وإلى معرفة مكانه؟ ومن هداه لكيفية الارتضاع إلى غير ذلك ديناً ودنياً.

{والذي} أي: {هو} لا غيره {يطعمني ويسقين} أي: يرزقني ويغذيني بالطعام والشراب ولو أراد أعدم ما آكل وما أشرب أو أصابني بآفة لا أستطيع معها أكلاً ولا شرباً، ونبه بذكر الطعام والشراب على ما عداهما.

تنبيه: يجوز في والذي يطعمني ويسقين أن يكون مبتدأ وخبره محذوف لدلالة ما قبله عليه وكذا الذي بعده، ويجوز أن تكون أوصافاً للذي خلقني ودخول الواو جائز كقوله:

*إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم*

وتكرير الموصول على الوجهين للدلالة على أن كل واحدة من الصلات مستقلة باقتضاء الحكم.

{وإذا مرضت} أي: باستيلاء بعض الأخلاط على بعض لما بينهما من التنافر الطبيعي {فهو} أي: وحده {يشفين} أي: بسبب تعديل المزاج بتعديل الأخلاط وقسرها عن الاجتماع لا بطبيب ولا غيره.

فإن قيل: لم أضاف المرض إلى نفسه مع أنّ المرض والشفاء من الله تعالى؟ أجيب: بأنه قال ذلك استعمالاً لحسن الأدب كما قال الخضر عليه السلام {فأردت أن أعيبها} (الكهف: 79)

وقال {فأراد ربك أن يبلغا أشدهما} (الكهف، 82) ، وأجاب الرازي بأنّ أكثر أسباب المرض محدث بتفريط الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك، ومن ثم قال الحكماء لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم لقالوا التخم، وبأنّ الشفاء محبوب وهو من أصول النعم والمرض مكروه وليس من النعم، وكان مقصود إبراهيم عليه السلام تعديد النعم ولما لم يكن المرض من النعم لا جرم لم يضفه إلى الله تعالى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015