تولى تربيتي هم الذين استعبدتهم فلا منة لك عليّ لأنّ التربية كانت من قبل أمي ومن قومي، ليس لك إلا مجرد الاسم وهذا ما يعد إنعاماً.
فإن قيل: لم جمع الضمير في منكم وخفتكم مع إفراده في تمنها وعبدت؟ أجيب: بأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله، كما مرّت الإشارة إليه بدليل قوله تعالى: {إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك} (القصص: 20)
وأما الامتنان فمنه وحده وكذلك التعبيد، ولما قال له بوابه إنّ ههنا من يزعم أنه رسول رب العالمين وأدخله عليه.
{قال} له {فرعون} عند دخوله حائداً عن جوابه منكراً لخالقه على سبيل التجاهل كما أنكر هؤلاء الرحمن متجاهلين وهم أعرف الناس بغالب أفعاله كما كان فرعون يعرف لقول موسى عليه الصلاة والسلام {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر} (الإسراء: 102)
{وما ربّ العالمين} أي: الذي زعمتما أنكما رسوله وإنما أتى بما دون من لأنها يسأل بها عن طلب الماهية كقولك ما العنقاء، ولما كان جواب هذا السؤال لا يمكن تعريفه إلا بلوازمه الخارجية لامتناع التعريف بنفسه وبما هو داخل فيه لاستحالة التركيب في ذاته عدل موسى عليه السلام إلى جواب ممكن فأجاب بصفاته تعالى، كما قال تعالى إخباراً عنه:
{قال رب} أي: خالق ومبدع ومدبر {السموات} كلها {والأرض} وإن تباعدت أجرامها بعضها من بعض {وما بينهما} أي: بين السموات والأرض فأعاد ضمير التثنية على جمعين اعتباراً بالجنسين وخصه بهذه الصفات لأنها أظهر خواصه وآثاره وفيه إبطال لدعواه أنه إله، ومعنى قوله {إن كنتم موقنين} أي: إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدّي إليه النظر الصحيح نفعكم هذا الجواب وإلا لم ينفع، أو إن كنتم موقنين بشيء قط فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وإنارة دليله، ولما ذكر موسى عليه السلام هذا الجواب الحق.
{قال} فرعون {لمن حوله} من أشراف قومه، قال ابن عباس: وكانوا خمسمائة رجل عليهم الأسورة وكانت للملوك خاصة {ألا تستمعون} جوابه الذي لم يطابق السؤال، سألته عن حقيقته وهو يجيبني بالفاعلية، ولما كان يمكن أن يعتقد أن السموات والأرضين واجبة لذاتها فهي غنية عن الخالق.
{قال} لهم موسى زيادة في البيان {ربكم ورب آبائكم الأولين} فعدل عن التعريف بخالقية السموات والأرض إلى التعريف بكونه تعالى خالقاً لهم ولآبائهم، إذ لا يمكن أن يعتقد في نفسه وفي آبائه وأجداده كونهم واجبين لذواتهم لأنّ المشاهدة دلت على أنهم وجدوا بعد العدم وعدموا بعد الوجود، وما كان كذلك استحال أن يكون واجباً لذاته واستحال وجوده إلا بالمؤثر فكان التعريف بهذا الأثر أظهر ولكن فرعون لم يكتف بذلك ولهذا.
{قال إنّ رسولكم} على طريق التهكم إشارة إلى أنّ الرسول ينبغي أن يكون أعقل الناس ثم زاد الأمر بقوله: {الذي أرسل إليكم} أي: وأنتم أعقل الناس {لمجنون} لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه، فكيف يصلح للرسالة من الملوك؟ فلما قال ذلك عدل موسى ج إلى طريق ثالث أوضح من الثاني بأن.
{قال رب المشرق والمغرب} أي: الشروق والغروب ووقتهما وموضعهما {وما بينهما} من المخلوقات لأنّ التدبير المستمرّ على هذا الوجه العجيب لا يتمّ إلا بتدبير مدبر قادر، وهذا بعينه طريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع نمروذ، فإنه