تحصناً} أي: تعففاً عنه وهذه الإرادة محل الإكراه فلا مفهوم للشرط؛ لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادة التحصن، فأما إذا لم ترد المرأة التحصن فإنها بغي الطبع طوعاً، وكلمة إن وإيثارها على إذا إيذان بأن الباغيات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من حيز الشاذ النادر ولأن الكلام ورد على سبب، وهو الذي ذكر في سبب نزول الآية، فخرج النهي على صورة صفة السبب وإن لم تكن شرطاً فيه، وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير تقديرها: وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصناً، ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء {لتبتغوا عرض الحياة الدنيا} أي: تطلبوا من أموال الدنيا بكسبهن وأولادهن {ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور} أي: لهن {رحيم} بهن، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال لهن: والله لهن أي: لا للمكره إلا إذا تاب.
فإن قيل: إن المكرهة غير آثمة فلا حاجة إلى المغفرة؟ أجيب: بأن الزنا لا يباح بالإكراه فهي آثمة لكن لا حد عليها للإكراه، ولما ذكر تعالى في هذه السورة هذه الأحكام وصف القرآن بصفات ثلاث:
أحدها: قوله تعالى:
{ولقدأنزلنا إليكم آيات مبينات} أي: الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت فيها الأحكام والحدود، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسر الياء التحتية والباقون بفتحها؛ لأنها واضحات تصدقها الكتب المتقدمة والعقول السليمة من بين بمعنى تبين أو لأنها بينت الأحكام والحدود.
ثانيها: قوله تعالى: {ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم} أي: من جنس أمثالهم، أي: وقصة عجيبة مثل قصصهم وهي قصة عائشة رضي الله تعالى عنها، فإنها كقصة يوسف ومريم عليهما السلام.
ثالثها قوله تعالى: {وموعظة للمتقين} أي: ما وعظ به في قوله تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} (النور، 2) ، وقوله تعالى: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون} (النور، 12)
إلخ، وفي قوله تعالى: {لولا إذ سمعتموه قلتم} (النور، 16)
إلخ، وفي قوله تعالى: {يعظكم الله أن تعودوا} (النور، 17)
إلخ وتخصيصها بالمتقين لأنهم المنتفعون بها، واختلف في معنى قوله تعالى:
{الله نور السموات والأرض} فقال ابن عباس: الله هادي أهل السموات والأرض فهم بنوره إلى الحق يهتدون وبهدايته من حيرة الضلال ينجون، وقال الضحاك: منور السموات والأرض، فقال: نور السماء بالملائكة، ونور الأرض بالأنبياء، وقال مجاهد: مدبر الأمور في السموات والأرض، وقال أبي بن كعب والحسن وأبو العالية: مزين السموات والأرض؛ زين السماء بالشمس والقمر والنجوم، وزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين، ويقال: بالنبات والأشجار، وقيل: معناه الأنوار كلها منه؛ كما يقال: فلان رحمة أي: منه الرحمة وقد يذكر مثل هذا اللفظ على طريق المدح كما قال القائل:
*إذ سار عبد الله من مرو ليلة
... فقد سار منها نورها وجمالها
وسبب هذا الاختلاف أن النور في الأصل كيفية تدركها الباصرة أولاً وبواسطتها سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيران على الأجرام الكثيفة المحاذية لها وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى إلا على ضرب من التجوز كالأمثلة المتقدمة أو على تقدير مضاف كقولك: زيد كرم وجود، ثم تقول: ينعش الناس بكرمه وجوده، والمعنى ذو نور السموات