أي: عادوا وتمادوا {في طغيانهم} الذي كانوا عليه قبل هذا {يعمهون} أي: يترددون.
{ولقد أخذناهم بالعذاب} وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا على قريش أنّ يجعل عليهم سنين كسني يوسف، فأصابهم القحط، فجاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال: بلى، فقال: قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فقد أكلوا الفرث والعظام والعلهز وشكا إليه الضرع فادع الله تعالى يكشف عنا هذا القحط فدعا فكشف عنهم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
تنبيه: العلهز وبر يخلط بدماء اللحم، فيؤكل في الجدب والعلهز أيضاً: القراد الضخم، وشكا بعض الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم السنة فقال:
*ولا شي مما يأكل الناس عندنا
... سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل
*وليس لنا إلا إليك فرارنا
... وأين فرار الناس إلا إلى الرسل
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم «واستسقى لرفع هذه المحن» فقال الله تعالى عنهم: {فما استكانوا} أي: خضعوا خضوعاً هو كالجبلة لهم وأصله طلب السكون {لربهم} أي: المحسن إليهم عقب المحنة {وما يتضرعون} أي: يجددون الدعاء بالخضوع والذل والخشوع في كل وقت بحيث يكون لهم عادة بل هم على ما جبلوا عليه من الاستكبار والعتو.
{حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا} أي: صاحب {عذاب شديد} قال ابن عباس: يعني القتل يوم بدر، وهو قول مجاهد، وقيل: هو الموت، وقيل: هو قيام الساعة {إذا هم فيه} أي: ذلك الباب مطروحون لا يقدرون منه على نوع خلاص {مبلسون} متحيرون آيسون من كل خير، ثم إنه سبحانه التفت إلى خطابهم وبين عظيم نعمته من وجوه:
أحدها: ما ذكره بقوله تعالى:
أي: خلق {لكم} يا من يكذب بالآخرة {السمع} بمعنى الإسماع {والأبصار} على غير مثال سبق لتحسنوا بها ما نصب من الآيات {والأفئدة} أي: التي هي مراكز العقول فتتفكروا في الآيات وتستدلوا بها على الوحدانية فكنتم بها أعلى من بقية الحيوان جمع فؤاد وهو القلب، وإنما خص هذه الثلاثة بالذكر؛ لأنه يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها، فمن لم يعملها فيما خلقت له، فهو بمنزلة عادمها كما قال عز وجل: {فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم، ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله} (الأحقاف، 26) ، ولما صور لهم هذه النعم وهي بحيث لا يشك عاقل في أنه لو تصور أنّ يعطي آدمي شيئاً منها لم يقدر على مكافأته حسن تبكيتهم في كفر النعم، فقال تعالى: {قليلاً ما تشكرون} لمن أولاكم هذه النعم التي لا يقدر غيره على شيء منها مع ادعائكم أنكم أشكر الناس لمن أسدى إليكم أقل ما يكون من النعم التي يقدر على مثلها كل أحد، فكنتم بذلك مثل الحيوانات العجم صماً بكماً عمياً؛ قال أبو مسلم: ليس المراد أنّ لهم شكراً وإن قل، لكنه يقال للكفور الجاحد النعمة ما أقل شكر فلان.
ثانيها: ما ذكره في قوله تعالى: {وهو} أي: وحده {الذي ذرأكم} أي: خلقكم وبثكم {في الأرض} للتناسل {وإليه} وحده {تحشرون} يوم النشور.
ثالثها: ما ذكره بقوله تعالى:
{وهو} أي: وحده {الذي} من شأنه أنه {يحي