فقال عز من قائل {والباقيات الصالحات} أي: الطاعات والمعارف التي شرحت لها الصدور وأنارت بها القلوب وأوصلت إلى علام الغيوب {خير عند ربك} مما متع به الكفرة والخيرية هنا في مقابلة قولهم أي: الفريقين خير مقاماً وقيل: الباقيات الصالحات هي الصلوات وقيل: التسبيح روى أبو الدرداء قال: «جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأخذ عوداً يابساً وأزال الورق عنه ثم قال: إنّ قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله تحط الخطايا كما يحط ورق هذه الشجرة الريح خذهنّ يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهنّ الباقيات الصالحات وهي من كنوز الجنة» فكان أبو الدرداء يقول: لأعملنّ ذلك ولأكثرنّ عمله حتى إذا رآني الجهال حسبوا أني مجنون. قال الرازي: والقول الأوّل أولى لأنه تعالى إنما وصفها بالباقيات الصالحات من حيث يدوم ثوابها فلا تختص ببعض العبادات فهي بأسرها باقية صالحة نظراً إلى أثرها الذي هو الهداية ثم بيّن تعالى خيريتها بقوله تعالى {ثواباً} أي: من جهة الثواب {وخيرٌ مرداً} أي: من جهة العاقبة يوم الحسرة.

فإن قيل: لا يجوز أن يقال هذا خير إلا والمراد أنه خير من غيره والذي عليه الكفار لا خير فيه أصلاً أجيب بأنّ المراد خير مما ظنه الكفار بقولهم خير مقاماً وأحسن ندياً، وقيل: هو كقولهم الصيف أحرّ من الشتاء بمعنى أنه في حرّه أبلغ منه في برده فالكفرة يردّون إلى فناء وخسارة والمؤمنون إلى ربح وبقاء.

ولما ذكر تعالى الدلائل أوّلاً على صحة البعث ثم أورد شبهة المنكرين وأجاب عنها أورد عليهم الآن ما ذكروه على سبيل الاستهزاء طعناً في القول بالحشر فقال تعالى:

{أفرأيت الذي} أي: الذي يعرض عن هذا اليوم ويزيد على ذلك بأن {كفر بآياتنا} الدالات على عظمتنا بالدلالات البينات {وقال} جرأة منه وجهلاً {لأوتينّ} أي: والله لأوتين في الساعة على تقدير قيامها {مالاً وولداً} أي: عظيمين فلم يكفه في جهله تعجيز القادر حتى ضم إليه إقدار العاجز وقرأ حمزة والكسائي وولداً وكذا ولداً في جميع ما في هذه السورة بضم الواو وسكون اللام والباقون بفتح الواو واللام في الجميع يقال ولد وولد كما يقال عرب وعرب وعدم وعدم أما القراءة بفتحتين فواضحة وهو اسم مفرد قائم مقام الجمع وأما قراءة الضم والإسكان فقيل: هي كالتي قبلها في المعنى وقيل: بل هي جمع لولد نحو أسد وأسد وأنشدوا على ذلك

*ولقد رأيت معاشراً ... قد أثمروا مالاً وولداً

وأنشدوا شاهداً على أنّ الولد والولد مترادفان قول الآخر

*فليت فلاناً كان في بطن أمه ... وليت فلاناً كان ولد حماره

ولما كان ما ادعاه لا علم به إلا بأحد أمرين لا علم له بواحد منهما أنكر قوله ذلك بقوله تعالى:

{أطلع الغيب} الذي هو غائب عن كل مخلوق فهو في بعد عن الخلق كالعالي الذي لا يمكن أحداً منهم الاطلاع إليه وتفرد به الواحد القهار {أم اتخذ} أي: بغاية جهده {عند الرحمن عهداً} عاهده عليه بأن يؤتيه ما ذكر بطاعة فعلها على وجهها ليقف سبحانه فيه عند قوله وقيل في العهد كلمة الشهادة، وعن قتادة هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول، وعن الكلبي هل عهد الله إليه أن يؤتيه ذلك وعن الحسن رحمه الله تعالى نزلت في الوليد بن المغيرة والمشهور

طور بواسطة نورين ميديا © 2015