أما دولة مصر إذ ذاك فإنها كانت في الذروة العليا من الأبهة والعزّ والفخر والكرم والمجد. فكان للمتسمين بخدمتها مرتب عظيم من المال والكسي والشحن مما لم يعهد في دولة غيرها وكان وأليها يولي المراتب العلية وسِمات الشرف السنية لكل من المسلمين والنصارى ما عدا اليهود خلافاً لدولة تونس فإن شرفها عمّ الجميع: ومع عظم ما كان يكسبه التجار وأصحاب الحرف وما يناله أهل الوظائف من الرزق العميم فكانت الأسعار بمصر رخيصة جداً فلهذا كنت ترى الناس قصريّهم وعميّهم مقبلين على الشغل واللهو معاً. فالبساتين غاصة بأهل الخلاعة والقصوف ومحال القهوة مجمع للأحباب. والأعراس مسموع فيها الغناء وآلات الطرب من كل طرف. والرجال يخطرون بالخز والديباج. والنساء ينؤن بما عليهن من الحليّ. والخيل والبغال والحمير مسرية ومكسوة بالحرير المزركش. إلا أن صاحبنا الفارياق لم يكد يدخل أرضاً سعيدة إلا ويخرج منها وقد تغير حالها. فأرجع معي الآن لنخلصه من أيدي الخرجيين. فإني تركته يحاول ذلك منذ حين.
قد غادرنا أي أنا وجماعة المؤلفين الفارياق يحاول أن ينفض الخرج عن ظهره. وإني الآن من دونهم علمت أنه بات ليلة وهو يفكر في أن كل شيء أثبتته الصنعة فلا بد من أن تقلقله الأحوال فمن عزم على القلقلة. فخرج في الصباح من معزفه وأخذ يطوف في الأسواق.
ويحرك كتفيه عند كل خطوة ويقول: ى قلبنَّه لا طرحنّه. لا ركسنّه لا بدحنّه. أنه أنقض ظهري أي قرح أي عقر. هل أنا اليوم حمار لحمار يالنكر. فرآه بعض الظرفاء وهو يحرك منكبيه فقال لا بد لهذا من شأن فأقبل إليه ولطف له المقال حتى استخرج سرّه من سرّته. وعلم حاله وسبب سفرته. فقال له لا عليك فأن مصر حرسها الله معدن الخير والبركة. ولكن لا بدّ للفوز بذلك من حركة. قال وأي حركة أعظم مما ترى. قال بل الأمر دون ذلك. ألك إذن واعية. وفكرة مدركة وقدم ساعية. قال أجل. قال فأسمع إذاً ما أقول لك.
إن بهذا المصر شاعراً مفلقاً من النصارى له وجاهة ونباهة عند جميع الأعيان. قال ما هذه صفة شاعر وما أرى كلامك إلا متناقض الطرفين فكيف فك هذا المعمى وتأويل هذه الأحجية. قال لا تناقض فأنه شاعر بالطبع لا بالصنعة. والفرق بين ذلك أن الشاعر بالصنعة هو من يكتسب بشعره فيمدح هذا ويكذب على هذا حتى ينال منهما شيئاً. فأما الشاعر بالطبع فإنما هو الذي يقول الشعر لباعث من البواعث دون تكلّف وانتظار للجائزة. قال ليس هذا الفرق مما ذكره الآمدي. قال أبعث الآمدي إلى آمد وأسمع مني.
قال قد أمَّدته فما الرشد. قال نصحي لك أن تكتب كتاباً إلى هذا العلامة وتلمس منه فيما تطري به مواجهته فإذا تكرم بذلك فأذكر له. حٍ ما أنت تعانيه واستنجد به. فلا بد من أن يجيبك. فإنه رجل متصف بمكارم الأخلاق ويجب دغدغة الافتخار. ولا سيما أنه يرغب في مجالسة ذوي الأدب وتيسير أسباب معيشتهم. فتلطف إليه في المقال. وأنا ضامن لك أن تفوز منه بالآمال. فشكره الفارياق على نصيحته ورجع إلى محله راضياً مستبشراً. فلما جنَّ الليل أخذ القلم والقرطاس وكتب ما نصه.