فأما ما يقال في مواضع التنزه والحظ في باريس وذلك كحديقة قصر الملك وما يليها فلعمري إن من رأى حدائق كريمون وفكس هال ورجفيل التي في ضواحي لندن ماعدا Cremorne Gardens Vauxhall Rosherville حدائق كثيرة في حاراتها فلا يطاوعه لسانه بعدها على ذكر غيرها. نعم إن حديقة القصر هنا حسنة على صغرها لكونها في قلب البلد وتلك منحازة عن الوسط. ولكن آه من قلب هذا البلد. كم من فاسدين وفاسدات تجمع هذه الحديقة في كل يوم فهي عبارة عن حابور. لأن النساء ينتبنها ليتصيدن منها الرجال. إذ تجلس المرأة على كرسي بجنب ممن أعجبها وهي لا تعرفه. ويكون بيده كتاب يطالعه وبيدها منديل تخيطه أو نحو ذلك. فيطفق هو يقرأ في الكتاب كلمة وينظر إليها نظرة وهي كذلك تملّ ملة وتهجل هجلة فلا يقومان إلا وهما متعاشقان. حتى إذا كان اليوم القابل تبدّل كل منهما مقامة وعشقه. أما الجمال فليس من مناسبة بين جمال نساء باريس ونساء لندن فالذأبة أو الخفوت هناك تعد هنا عبهراً ولعزة الجمال هنا صار عزيزاً فإن الشيء متى عزّعزّ فكان كلف الناس به اكثر وتنافسهم فيه أشد. ومن أعجب العجب عندي أن الجملة الرائعة في لندن تطوف بأخلاق من الثياب. والدميمة الشوهاء في باريس ترفل بالحرير والكشميري فإما مواضع الرقص فإنها في لندن تفتح كل ليلة وفي باريس ثلاث مرات في الجمعة لا غير. وفي أكثر شوارع لندن تسمع الغناء من جواري حسان وآلات الطرب ليلاً ونهاراً من دون غرامة ولا كلفة. وليس كذلك في باريس إلا ما ندر.

وغاية ما يقال في التنويه بباريس وفي تفصيلها أن فيها مواضع للشراب والقهوة ظريفة يجلس داخلها وخارجها الرجال والنساء متقابلين ومتدابرين. فهل لمجرد القعود على كرسي يحكم لها بالفضل وتشهر عند الخاصة والعامة من أعصر متعددة بأنها أجمل مدينة في العالم. ثم أين حشمة فتيان الإنكليز وتأديبهم مع النساء سواء كانوا في البيوت والشوارع من فتيان الفرنساوية هؤلاء الهصاهيص الذين يهصهصون في النساء حرائر كن أو بغايا. ومتى ينظروا امرأة مكّبة لربط شراك نعلها يطيفوا بها فيصيروا لحلقتها حلقة ولحِتارها حتاراً. ولا سيما حين يأتون إلى هذه المناصع ويبدون فيها منادفهم- قال فقلت استمري في الحديث وقولي ما شئت بحيث لا تقفين على المنادف. قالت أتغار علي أيضاً من الوقوف بالكلام. وإنما وقفت بُهْراً من هذه الدنيا المبينة على النادفية والمندوفية. لا جرم لو إني كنت في مقام ملك أو أمير لما أكلت مّما مستّه أيدي الرجال شيئاً.

وبينما هما في الكلام إذا برجل يطرق الباب ففتح له الفارياق وهو مستعيذ من حوله على ذكر المنادف. وإذا به يقول. قد سمعت بقدومك فأتيتك رغبة في أن أقرأ عليك في العربية شيئاً وأعطيك في مقابلة ذلك خمسة عشر أفرنكاً في الشهر. فلما سمعت الفارياقية أغربت في الضحك على عادتها وقالت لزوجها. دونك أوّل دليل على كرم أصحابنا هؤلاء الذين طبّل بذكرهم العالم ورمّز. فقال له الفارياق ما أريد منك مالاً وإنما تبادلني الدرس في لغتك عن لغتي. فرضي بذلك. ثم زاره أحد علماء باريس بعد أيام وقال له قد بلغني قدومك وإنك مُوْلَع بالنظم. فلو أبياتاً على باريس وذكرت ما فيها من المحاسن لقام ذلك عند أهلها مقام توصية بك. لأن الناس هنا يحبون الإطراء والتمليق أي يحبون أن الدخيل فيهم يطرّيهم بالإطراء. وإذا كانوا هم دخلاء في غير بلادهم أطرأوا على حكام تلك البلاد ونالوا عندهم الوجاهة والمكانة. فأجابه الفارياق إلى ذلك ونظم قصيدة طويلة في مدح باريس وأهلها سماها الهرفية لأنه مدحهم مجازفة من قبل أن يعرفهم. وسيأتي مع نقيضتها الحرفية ومع نبذة مما نظمه بباريس في الفصل العشرين. فلما وقف العالم الموما إليه على معانيها أستحسنها جداً وترجمها إلى لغته. وتوصل في أن طبع الترجمة في إحدى الصحف الأخبارية وجاء بنسخة منها إلى الفارياق وهو يقول. قد طبعت ترجمة قصيدتك في الصحيفة وقد وعدتني جمعية العلم الآسياوية "نسبة لآسيا" بأن تطبع الأصل العربي في صحفهم العلمية. لكونك أول شاعر مدح باريس باللغة العربية. فشكره الفارياق على ذلك وقال له إني أريد نسخة من هذه الترجمة. قال أنها في مكان كذا بنحو ثلثي أفرنك فسار وأشترى نسخة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015