فقام بعض النقاد. وقال سمعاً يا أهل الرشاد. أن أسعد خلق الله راهب لزم كتابه في صومعته وتفرغ عن الشغل بعقاره وضيعته. فهو يأكل من أرزاق الناس. ويعوضهم عنه دعاء يطفح من أصمار الكأس. ويغنيهم في الدياجي عن النبراس. ويركب ما لديهم من النجائب. فهو كما قيل أكل شارب. ثم ما عليه بعد ذلك أن خرب الكون أو عمر. وإن مات الخلق أو نشر. فقال بعض ذوي الرشاد. ما هذا القول من السداد. فإن الراهب وأمثاله إذا رأى الناس مقبلين على أعمالهم. مشتغلين بأشغالهم. لم يرض الدناءة لنفسه أن يعيش من كدهم. ويستريح على تعبهم وجهدهم. ويتحين أوان رفدهم. بل يود لو كان شريكاً لهم في أتعابهم. أحرى من أن يكون شريكاً في مصوناتهم. هذا إذا كان نزيه النفس. كريم القنس. صادق السعي. ضابط الوعي ثم أن له عند رؤية الرجال مع نسائهم وأولادهم لغصات. وحسرات وأي حسرات. ولا سيما إذا خلا في الصومعة. ورأى أن سمنه ذاهب سدى من غير منفعة. وإن غيره ممن أضواهم الكد والنصب. وأجاعهم الجهد والتعب أقدر منه على بلوغ الأرب. مما أصطلح عليه سائر خلق الله من عجم وعرب.
فقال من استوصب مقاله. وأرتاح لما قاله. هذا لعمري هو الحق المبين. فإن الراهب ومن أشبه حري بأن يعد مع الشقيين.
وإنما يظهر لي أن أسعد الناس عيشاً هو التاجر يقعد في حانوته بعض ساعات من يومه فيكسب بإيمانه المغلظة في ساعة واحدة ما ينفقه في شهره. يجعل الكاسد من سلعته بتكرير كلامه نافقاً. والدون فائقاً. ثم هو أن آوى إلى منزله ليلاً. أصاب في خدمته دعد وليلى. فهو في نهاره كساب للمال. وفي ليلته منفقة على ربات الحجال. فقال من انتقد كلامه. وتبين ذامه. إن التاجر لا تمكن له هذه العيشة الراضية. ولا تهنؤه هذه النعمة الزافية. إلا إذا كان قازبا ذا معاملات في البلاد القاصية. وركوب للأخطار. واقتحام للأوطار. ومتى كان كذلك نقص من رغده وافر تجشمه وكده. ونغص من لذاته تعدد بغياته. وملا خاطره أشجانا. ما حاوله ليرضى به زبوناً وأخواناً فكلما هبت ريح خشبي على سلعته في البحر. وكلما جشر صبح أوجس من ورود قادم يخبره بشر. أو مالكه تنبي عن تلف وخسر. وكساد وحظر. فهو لا يزال في أعمال نظر. وتجرع آسف وكدر. فقال بعض السامعين إنك لمن الصادقين. أما أنا فلا أود أن أكون ذا اتجار. ولو ربحت في كل يوم مائة دينار. لما يتعقب هذه الحرفة من القيل والقال. والتكذيب والمحال. والمحاولة والمكر. والمداهاة والنكر. فضلاً عن اقتصاري في الحانوت ربع عمري. ولا علم لي بما يجري في وكري. فلعل رقيباً يخالفني إلى داري. وأنا إذ ذاك أكذب على الشاري وأماري وأجامل وأداري. ففي عنقي حبل الإثم بما أفعل في محترفي. وبكوني صرت وسيلة لإرتكاب الحرام في مألفي.