ولكن فلنعد إلى الوداع إني أعاهدك على أن لا أخونك. قالت بل تخونني على عهد. قلت ما يحملك على سوء الظن بي. قالت إني أرى الرجال إذا كانوا في بلاد لم يُعرفوا بها أفشحوا غاية الإفحاش. ألا ترى إلى هؤلاء الغرباء الذين يأتون إلى هذه الجزيرة كيف يتهتكون في العهر والفجور. فأول ما يضع أحدهم قدمه على الأرض يسأل عن الماخور. ولا سيما هؤلاء الشاميين ولا سيما النصارى منهم ولا سيما الذين ألمّوا بعلم شيء من أحوال الإفرنج ولغاتهم فأنهم يخرجون من المراكب كالزنابير اللاسعة من هنا وهناك. قلت لعلهم كانوا في بلادهم كذلك قالت ليس عندهم أسباب الفحش هناك. قلت أو كانوا فاسدين بالطبع. قالت نعم هو عرق فساد فأول ما يستنشقون رائحة بلاد الإفرنج ينبض فيهم. ولذلك تراهم أبداً يتلمظون بذكر بلاد الإفرنج وعاداتهم وأحوالهم. مع أنك إذا سألت أحداً منهم عن طعامهم قال لا يستطيبه. أو عن ألحانهم قال لا تطربه. أو عن كرمائهم قال لم تأدبه. أو عن حمّاماتهم قال لم تعجبه. أو عن هوائهم قال لم يلائمه. أو عن مائهم قال لم يسغ له. فيكون لهجتهم بذكر بلادهم وتنويههم بمحاسنها إنما سببه الفحش. وأنت من يضمن لي طبعك عن الفساد وقد أسمعك كل يوم تُهيم بذكر الرجراجة والرضراضة والبضباضة والفضفاضة والربحلة والرعبوب والعطبول. وهي لعمري ألفاظ تسيل لعاب الحصور وتشهّي الناسك. قلت إن هو إلا كلام. قالت أول الحرب كلام. قلت أترين اعدّي عن هذه الصنعة الشائقة، والحرفة العائقة. قالت إن لم تتصور ذاتا بعينها عند الوصف فلا بأس. قلت إن لم أتصور ذاتا لم يخطر ببالي شيء. قالت إذن هو حرام. قلت ما كفارته. قالت إياي لا غير. قلت ولكن أنت خالية عن بعض الصفات التي لابد من ذكرها قالت إذا كان الرجل يحب امرأته رأى فيها الحسن كله ونظر من كل شعرة منها امرأة جميلة كما أنه إذا احب امرأة غيرها أحبّ لأجلها بلادها وهواءها وماءها ولسان قومها وعاداتهم وأطوارهم. قلت أو كذلك المرأة إذا أحبت رجلاً. قالت هو في النساء أكثر لأنهن أوفر حبا ووجداً. قلت ما سبب ذلك. قالت لأن الرجال يتشاغلون بما ليس يعنيهم. فترى واحداً منهم يطلب الولاية وآخر السيادة وآخر البحث في الأديان وفي ما غمض من السفليات والعلويات. والنساء لا شيء يشغلهن من ذلك. قلت ليتك تشاغلت مثلهم. قالت ليت لي قلبين في شغلنا. قلت أفتنظرين في الحسن كله كما زعمت. قالت أُحْسن فيك النظر: قلت فلنعد إلى الوداع لا بل فلنعد إلى التشاغل. فإني أريد أن أنهي هذه المسألة قبل أن أفصل من هنا وإلا فتكون لي شاغل الطريق وربما أفسدت شغلي عند القوم فأرجع باللوم عليك وعلى سائر النساء. قالت اعلم إن المرأة تعلم من نفسها إنها زينة هذا الكون كما أن جميع ما فيه إنما خلق لزينتها لا لزينة الرجل. لا لكونه مستغنياً عنها بذاته أو لكونها هي مفتقرة إليها لتحلو بها في عين الناظر وإذن السامع، بل لعدم جدارة الرجل بها. فإن الزينة نوع من الأخذ والتلقي والاستيعاب والزيادة وهي أحوال أنسب بالمرأة منها بالرجل. وبناء على هذا أي على أن جميع ما في الكون خُلق لها بعضه بالتخصيص وبعضه بالتفضيل والإيثار. كان من بعض اعتقادها أن نوع الرجل أيضاً مخلوق لها. لا بمعنى إنها تكون زوجة لجميع الرجال. فإن ذلك محال من وجهين. أحدهما إنها لا تطيق ذلك لأن سرية ذلك اليهودي "على ما ذكر في الفصل التاسع عشر من سفر القضاة" لم تطق أهل قرية واحدة "هي جبعة" على قلتهم ليلة واحدة. بل ماتت في الصباح وسيدها يحسبها نائمة. وهذه الحكاية ذكرت ردعاً للنساء. والثاني إنه إذا ثبت لامرأة حق في حكر الرجال والاستبداد بهم ثبت الحق الباقي. ولكن بمعنى إنها أهل لأن تعاشر جميع الرجال وتتعرف ما عندهم. فتتلهى من واحد بتملقه ومن آخر بإطراء ومن غيره بمغازلة ومن آخر بمطارحة وما أشبه ذلك. مما لا يمنعها من محبة زوجها والكلف به. لا بل -قال فقلت أتمنى هذه اللابليّة فإني أراها ترجمة لداهية من دواهي النساء وعنواناً على مكيدة من مكايدهن. فضحكت وقالت ربّما دلت على الرأي الظنون. غير إني أخشى من أن تأخذك لبيانها شفشفة ورعدة فتتأخر عن السفر. أو أن تظن إن هذا دأبي معك. معاذ الله. إني لم أخنك بضمد ولا بغيره. وإنما علمت من النساء لأن النساء لا يكتم بعضهن عن بعض شيئاً من أمور العشق وأحوال الرجال.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015