بينما كان الفارياق رأسه ورجلاه في البيت كان فكره يصعد في الجبال. ويرتقي التلال. ويتسور الجدران. ويتسنم القصور ويهبط الأودية والغيران ويرتطم في الأوحال. ويخوض البحار. ويجوب القفار. إذ كان أقصى مراده أن يرى غير منزله وناسا غير أهله. وهو أول عناء الإنسان في حياته. فعن له أن يزور أخاً له كان كاتبا عند بعض أعيان الدروز. فسار وحقائبه الأماني. فلما أجتمع به ورأى ما كان عليه القوم من الخشونة والتقشف ومن الأحوال المغايرة لطباعه. أنكر بعضها ووطن نفسه على تحمل البعض الآخر. ولم يشأ وشك الرجوع من دون تقصي معرفتهم. ولو كان رشيدا لصرف نفسه عن هواها من أول يوم. إذ ليس من المحتمل إن أهل مدينة أو قرية يغيرون أخلاقهم وما ربوا عليه لأجل غريب دخل فيهم. ولا سيما إذا كانوا شياظمة ذوي بسطة وبأس. وكان هو قميا. ولكن الإنسان كلما قل شغله كثر فضوله فلا يكتفي بمجرد ما يسمع بإذنه حتى يرى بعينه. وكان الفارياق كلما زاد بهؤلاء القوم خبرة ونقداً. زاد أعراضاً عنهم وزهداً لأنهم كانوا غلاظ الطباع. بهم جفاء وإفظاع. وسخي الوساد والملبوس. ملازمي الضعف والبؤس. وأقذرهم كان طباخ الأمير فإن قميصه كان أنتن من الممحاة. وقدميه أقلتا من الوسخ ما لا تكاد تكشطه عنه المسحاة. وكانوا إذا قعدوا للطعام سمعت لهم زمزمة وهمهمة. وقعقعة وطعطعة. فخلتهم وحوشا على جيفة يثرملون ويرهطون وينهسون ويتعرقون ويتمششون ويتلمظون ويتمطقون ويلوسون ويلطعون ويتنطعون وكل ذلك في فرشطة خفيفة. فكنت ترى في جبهة كل منهم مضمون ما قيل من لفلف. لم يتقصف. فإذا قاموا رأيت الرز مزروعا في لحاهم والوضر متقاطرا من كساهم. فكان الفارياق إذ آكلهم قام جوعانا. ومعت أمعاؤه في الليل. فبات سهراناً. فكان يقول لأخيه عجباً لمن يعاشر هؤلاء الناس. من الأكياس. ما الفرق بينهم وبين البهائم. سوى باللحى والعمائم. لا جرم إنهم عائشون في الدنيا لسد بصائرهم وأفكارهم. ولفتح أفواههم وأدبارهم لا يكاد أحد منهم يظن أن الله تعالى بشرا إلاَّ وكان دونه وما يدرون إن الإنسان ليس له بمجرد النطق فضل على العجماوات ومزية على الجمادات. فإن الكلام إنما هو مادة لصورة المعاني. ولا تنفع المادة وحدها إذا لم تحل فيها الصورة التي هي الوجود الثاني. وقد يقال إن الرقين. تغطي أفن الأفين. وهؤلاء قد حرموا من العقل والنعمة. ورضوا من الكون كله بالنسمة. كيف تطيق إن تعاشر هؤلاء الهمج وفضلك بين الناس قد بلج. فقال له أخوة إن كثيرا ليحسدونني على مكانتي عند الأمير. وإني لكيد حسادي أصبر على العسير كما قيل.
وكم أشياء يحسبها أناس ... لفاعلها نعيم وهي بؤسُ
ولولا إن يكيد بها حسوداً ... لأنكر ذكرها وبه عبوسُ
وفضلا عن ذلك فإن القوم ذوو نخوة ومروءة. وشهامة وفتوة. وإنهم وأن يكونوا سيئي الأدب على الطعام. فهم متأدبون في الفعال والكلام. لا ينطقون بالخنى ولا يعرف بينهم لواط ولا زنا.
غير إن الفارياق كان يرى كله في المأدبة فكأنه كان قد تخرج على بعض الإفرنج أو كان فيهم نسبة. فمن ثم استدعى بقريحته على هجوم فلبته. ونادى القوافي لوصفهم فأجابته. فنظم فيهم قصيدة بين فيها سوء حالهم وخشونة بالهم. من جملتها
في ثغر كل منهم سكيَّنة ... وسلاحه الماضي فأين المطعمُ
ثم عرضها على أخيه وكان مشهوداً له بالأدب. وعلم لغة العرب. فاستحسنها منه على صغر سنه. وأعجب ببراعة فنه. ثم لم يلبث أن اشتهر أمرها وشاع ذكرها. وذلك لأن أخاه من شدة إعجابه بها تلاها على كثير من معارفه فبلغها بعض الحساد إلى أمير الناد. وكان هذا المبلغ نصرانياً فإن الحسد لا يكون إلا عند النصارى. مع أن كثيراً ممن تليت عليهم من الدروز كانوا داخلين في عداد المهجوين.