وَقَوْلُ بَعْضِ شُرَّاحِ الْمِنْهَاجِ: كَوْنُ الْمِزْمَارِ مِنْ شِعَارِ الشَّرَبَةِ قَدْ يُمْنَعُ وَالْغَالِبُ أَنَّهُمْ لَا يُحْضِرُونَهُ، فَإِنَّ فِيهِ إظْهَارًا لِحَالِهِمْ.
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: بَاطِلٌ بَلْ يُحْضِرُونَهُ فِي مَكَانِهِمْ الَّذِي لَا تَظْهَرُ فِيهِ أَصْوَاتُ الْمَعَازِفِ وَيُظْهِرُهُ أَرْبَابُ الْوِلَايَاتِ الْمُجَاهِرُونَ بِالْفِسْقِ. وَفِي الْإِحْيَاءِ الْمَنْعُ مِنْ الْأَوْتَارِ كُلِّهَا لِثَلَاثِ عِلَلٍ: كَوْنُهَا تَدْعُو إلَى شُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنَّ اللَّذَّاتِ الْحَاصِلَةَ تَدْعُو إلَيْهَا فَلِهَذَا حَرُمَ شُرْبُ قَلِيلِهَا. وَكَوْنُهَا فِي قَرِيبِ الْعَهْدِ يَشْرَبُهَا تُذَكِّرُهُ مَجَالِسِ الشُّرْبِ وَالذِّكْرِ سَبَبُ انْبِعَاثِ الْفُسُوقِ وَانْبِعَاثُهُ سَبَبٌ لِلْإِقْدَامِ.
وَكَوْنُ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْأَوْتَارِ صَارَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْفِسْقِ مَعَ التَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ. انْتَهَى. إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَقَدْ حُكِيَتْ آرَاءٌ بَاطِلَةٌ وَآرَاءٌ ضَعِيفَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلِاتِّفَاقِ الْمَذْكُورِ: مِنْهَا: قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ لَمْ يَصِحَّ فِي تَحْرِيمِ الْعُودِ حَدِيثٌ وَقَدْ سَمِعَهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَهُوَ مِنْ جُمُودِهِ عَلَى ظَاهِرِيَّتِهِ الشَّنِيعَةِ الْقَبِيحَةِ كَيْفَ وَالْعُودُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَازِفِ؟ وَقَدْ صَحَّ فِي تَحْرِيمِهَا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ آنِفًا، وَمَا زَعَمَهُ عَنْ هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ مَمْنُوعٌ وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ عَنْهُمَا وَحَاشَاهُمَا مِنْ ذَلِكَ مَعَ شِدَّةِ وَرَعِهِمَا وَتَحْرِيمِهِمَا وَاتِّبَاعِهِمَا وَبُعْدِهِمَا مِنْ اللَّهْوِ. وَلَئِنْ سَلِمَ مَا زَعَمَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَفِي عُمُومِ الْأَحَادِيثِ النَّاصَّةِ عَلَى ذَمِّ الْبِدَعِ وَالْمُحْدَثَاتِ وَإِنْكَارِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ دَلَالَةً لَا مَدْفَعَ لَهَا.
وَقَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ أَجَلَّةِ أَصْحَابِنَا: كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَخُصُّ الْعُودَ بِالْإِبَاحَةِ مِنْ بَيْنِ الْأَوْتَارِ وَلَا يُحَرِّمُهُ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى حَرَكَاتٍ تَنْفِي الْهَمَّ وَتُقَوِّي الْهِمَّةَ وَتَزِيدُ فِي النَّشَاطِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ انْتَهَى. وَتَقَوَّلَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي رَدِّ هَذَا الْوَجْهِ لَا وَجْهَ لَهُ تَنْدَفِعُ مُنَازَعَةُ الْإِسْنَوِيِّ الشَّيْخَيْنِ فِي نَفْيِهِمَا الْخِلَافَ فِي الْأَوْتَارِ. وَوَجْهُ الِانْدِفَاعِ أَنَّهُ شَاذٌّ مُنَافٍ لِلدَّلِيلِ، فَكَانَ فِي حَيِّزِ الطَّرْحِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَعَدَمُ الِاعْتِدَادِ بِهِ عَلَى قَوْلِ الْإِسْنَوِيِّ فِي حِكَايَةِ هَذَا الْوَجْهِ إطْلَاقُ الشَّيْخَيْنِ نَفْيَ الْخِلَافِ فِي الْأَوْتَارِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي (الْبَحْرِ) وَجْهًا أَنَّ الْعُودَ بِخُصُوصِهِ حَلَالٌ لِمَا يُقَالُ إنَّهُ يَنْفَعُ مِنْ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ مُعْتَرِضٌ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُعَلِّلًا بِنَفْعِهِ لِبَعْضِ الْأَمْرَاضِ فَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ الْإِبَاحَةِ بِمَنْ بِهِ ذَلِكَ الْمَرَضُ دُونَ غَيْرِهِ.
وَأَيْضًا فَإِذَا أُبِيحَ لِحَاجَةِ الْمَرَضِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى حِكَايَتِهِ وَجْهًا بَلْ يَجْزِمُ بِجَوَازِهِ إذَا انْحَصَرَ التَّدَاوِي فِيهِ كَمَا