فقال له: قل له إني سأقرب منك إن شاء الله، وأمر يوسف بعض قواده أن يمضي بكتيبة رسمها له حتى يدخل محلة النصارى فيضرمها ناراً ما دام ابن فرذلند مشتغلاً مع ابن عباد، وانصرف ابن القصيرة إلى المعتمد فلم يصله إلا وقد غشيه جنود ابن فرذلند، فصدمها ابن عباد صدمة قطعت آماله ولم ينكشف له، فحميت الحرب بينهما، ومال ابن فرذلند على المعتمد بجموعه وأحاطوا به من كل جهة فاستحر القتل فيهم، وصبر ابن عباد صبراً لم يعهد مثله لأحد، واستبطأ يوسف وهو يلاحظ طريقه، وعضته الحرب واشتد البلاء وأبطأ عليه الصحراويون، وساءت ظنون أصحابه، وانكشف بعضهم وفيهم ابنه عبد الله، وأثخن ابن عباد جراحات وضرب على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه، وجرحت يمنى يديه وطعن في أحد جانبيه وعقرت تحته ثلاثة أفراس كلما هلك واحد قدم له آخر وهو يقاسي حياض الموت يضرب يميناً وشمالاً، وتذكر في تلك الحال ابناً له صغيراً كان مغرماً به، كان تركه بإشبيلية عليلاً اسمه المعلى (?) وكنيته أبو هاشم فقال:
أبا هاشم هشمتني الشفار ... فلله صبري لذاك الأوار
ذكرت شخيصك تحت العجاج ... فلم يثنني ذكره للفرار ثم كان أول من وافى ابن عباد من قواد ابن تاشفين، داود بن عائشة، وكان بطلاً شهماً فنفس بمجيئه عن ابن عباد، ثم أقبل يوسف بعد ذلك وطبوله تصدع الجو، فلما أبصره ابن فرذلند وجه أشكولته إليه وقصده بمعظم جنوده، وقد كان علم حساب ذلك من أول النهار فأعد له هذه الأشكولة وهي معظم جنوده، فبادر إليه يوسف وصدمهم بجمعه فردهم إلى مركزهم وانتظم به شمل ابن عباد ووجد ريح الظفر وتباشر بالنصر، ثم صدقوا جميعاً الحملة فتزلزلت الأرض بحوافر خيولهم وخاضت الخيل في الدماء وصبر الفريقان صبراً عظيماً، ثم تراجع ابن عباد إلى يوسف وحمل معه حملة نزل معها النصر، وتراجع المنهزمون من أصحاب ابن عباد حين علموا بالتحام الفئتين فصدقوا الحملة فانكشف الطاغية ومر هارباً منهزماً، وقد طعن في إحدى ركبتيه طعنة بقي أثرها بقية عمره، فكان يخمع منها، فلجأ إلى تل كان يلي محلته في نحو الخمسمائة فارس كلهم مكلوم، وأباد القتل والأسر من عداهم من أصحابهم، وعمل المسلمون بعد ذلك من رؤوسهم صوامع يؤذنون عليها، وابن فرذلند ينظر إلى موضع الوقيعة ومكان الهزيمة فلا يرى إلا نكالاً محيطاً به وبأصحابه، وأقبل ابن عباد على يوسف فصافحه وهنأه وشكره وأثنى عليه، وشكر يوسف مقامه وحسن بلائه وجميل صبره، وسأله عن حاله عندما أسلمته رجاله بانهزامهم عنه، فقال: هم هؤلاء قد حضروا بين يديك فليخبروك. ولما انحاز الطاغية بشرذمته جعل ابن عباد يحرض على اتباع الطاغية وقطع دابره، فأبى ابن تاشفين واعتذر بأن قال: إن اتبعناه اليوم لقي في طريقه أصحابنا المنهزمين راجعين إلينا منصرفين فيهلكهم، بل نصبر بقية يومنا حتى يرجع إلينا أصحابنا ويجتمعون بنا ثم نرجع إليه فنحسم داءه، وابن عباد يرغب في استعجال إهلاكه ويقول: إن فر أمامنا لقيه أصحابنا المنهزمون فلا يعجزون عنه، ويوسف مصر على الامتناع من ذلك، ولما جاء الليل تسلل ابن فرذلند وهو لا يلوي على شيء، وأصحابه يتساقطون في الطريق واحداً بعد واحد من أثر جراحهم، فلم يدخل طليطلة إلا في دون المائة.
وتكلم الناس في اختلاف ابن عباد وابن تاشفين، فقالت شيع ابن عباد: لم يخف على يوسف أن ابن عباد أصاب وجه الرأي في معاجلته لكن خاف أن يهلك العدو الذي من أجله استدعاه فيقع استغناء عنه، وقالت شيع يوسف: إنما أراد ابن عباد قطع حبال يوسف من العود إلى جزيرة الأندلس، وقال آخرون: كلا الرجلين أسر حسواً في ارتغاء (?) وإن كان ابن عباد كان أحرى بالصواب.
وكتب ابن عباد إلى ابنه بإشبيلية: كتابي هذا من المحلة يوم الجمعة الموفي عشرين من رجب وقد أعز الله الدين، ونصر المسلمين وفتح لهم الفتح المبين، وأذاق المشركين العذاب الأليم والخطب الجسيم، فالحمد لله على ما يسره وسناه من هذه الهزيمة العظيمة والمسرة الكبيرة هزيمة أذفونش، أصلاه الله تعالى الجحيم ولا أعدمه الوبال العظيم، بعد إتيان النهب على محلاته واستئصال القتل في جميع أبطاله وأجناده وحماته وقواده، حتى اتخذ المسلمون من هاماتهم صوامع يؤذنون عليها، فلله الحمد على جميل صنعه،