يا أمير المؤمنين كنت رجلاً جمالاً فلقيني رجل فقال: أتحملني إلى مكان كذا وكذا، موضعاً في البرية، قلت: نعم، فلما حملته وسرنا بعض الطريق التفت إلي فقال لي: إن بلغنا الموضع الذي ذكرته لك وأنا حي أغنيك، وإن مت قبل بلوغي إليه فاحملني إلى الموضع الذي أصف لك، فإن ثم قصراً خراباً فإذا بلغته فامكث إلى ضحوة النهار ثم عد سبع شرافات من القصر واحفر تحت السابعة على قدر قامة فإنك ستظهر لك بلاطة فاقلعها، فإنك سترى تحتها مغارة فادخلها، فإنك ترى في المغارة سريرين على أحدهما رجل ميت، فاجعلني على أحد السريرين ومدني عليه وحمل جمالك هذه وحمارتك مالاً من المغارة وارجع إلى بلدتك. قال: فمات في الطريق، ففعلت ما أمرني به، وكان معي أربعة جمال وحمارة فأوسقتها كلها مالاً من المغارة وسرت بعض الطريق وكانت معي مخلاة فنسيت أن أملأها من ذلك المال وداخلني الشره، فقلت: لو رجعت فملأت هذه المخلاة، فرجعت وتركت الجمال والحمارة في الطريق فلم أجد المكان الذي أخذت منه المال، فدرت فلم أعرف، فلما يئست رجعت إلى الجمال والحمارة فلم أجدها، فجعلت أدور في البرية أياماً فلم أجد لها أثراً، فلما يئست رجعت إلى دمشق وقد ذهبت الجمال والحمارة فلم أحصل على شيء، وألجأني الأمر إلى ما ترى يا أمير المؤمنين، فها أنا أعمل كل يوم في التراب بدرهم فكلما تذكرت بكيت، فقال له الوليد: لم يقسم الله لك في تلك الأموال شيئاً وإلي صارت فبنيت بها هذا المسجد.
وفي غربي دمشق لأقل من ميل منها قصر الإمارة، وهي مدينة مسورة، ولها بابان كبيران يسمى أحدهما باب الربوة والثاني باب حوران، وبينهما أبواب كثيرة تسمى الخوخات، وفيها مسجد جامع متقن إلا أنه لا يبلغ إتقان مسجد المدينة الكبرى، وفيها أسواق كثيرة، وبين قصر الإمارة والمدينة بساتين وأنهار جارية، وعلى قصر الإمارة قبة حمراء مشرفة، ويحيط بقصر الإمارة نهر من جميع جوانبه، وجبل اللكام جبل شاهق لاصق بمدينة دمشق، وبينهما نهر عليه قنطرة لطيفة، وهي تسقي بساتين الغوطة، وثنية العقاب على مقربة من مدينة دمشق تسير من الثنية في قرى النصارى حتى تفضي إلى باب توما.
والخضراء من دمشق كان ينزلها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. ومرابط أهل دمشق بيروت، وهي مدينة على شاطئ البحر وفيها كان أبو الدرداء رضي الله عنه. وفتحت دمشق في زمان عمر رضي الله عنه سنة أربع عشرة بعد أن لقيتهم جموع الروم بمرج الصفر عند طاحونة المرج فهزمت الروم، ويقال إن الطاحونة طحنت في ذلك اليوم من دمائهم وهرب هرقل إلى أنطاكية ثم إلى القسطنطينية.
ولعبد الله بن أحمد الكاتب المعدل في ذكر دمشق، أنشده ابن عساكر في كتابه (?) :
سقى الله ما تحوي دمشق وحياها ... فما أطيب اللذات فيها وأهناها
نزلنا بها فاستوقفتنا محاسن ... يحن إليها كل قلب ويهواها
لبسنا بها عيشاً رقيقاً رداؤه ... ونلنا بها من صفوة العيش أعلاها
ولم يبق فيها للمسرة بقعة ... يفرح فيها القلب إلا نزلناها
وكم ليلة نادمت بدر تمامها ... تقضت وما أبقت لنا غير ذكراها
فآهاً على ذاك الزمان وطيبه ... وقل له من بعده قولتي آها
فيا صاحبي إما حملت تحيتي ... إلى دار أحباب لنا طاب مغناها
فقل ذلك الوجد المبرح ثابت ... وحرمة أيام الهوى ما أضعناها
فإن كانت الأيام أنست عهودنا ... فلسنا على طول المدى نتناساها
سلام على تلك المحاسن إنها ... محط (?) صبابات النفوس ومثواها
رعى الله أياماً تقضت بقربها ... فما كان أهناها لدينا وأمراها