عشرة أيام في مشاجر ومفاوز على غير طريق مسلوكة ومناهج معروفة حتى تنتهي إلى بلاد الخزر، وهي بلاد عريضة يتصل بها من إحدى جنباتها جبل عظيم يمر إلى بلاد تفليس أول حدود أرمينية، ومدينة الخزر العظمى قطعتان على الشرقي والغربي من نهر اثل، وهو نهر يخرج إليهم من الروس ويصب في بحر الخزر، ويحيط بالمدينتين سور ولهما أبواب ولهم حمامات وأسواق ومساجد وأئمة ومؤذنون.
والخزر مسلمون ونصارى وفيهم عبدة أوثان، وأقل الفرق منهم اليهود، ومقدار من فيها من المسلمين يزيد على عشرة آلاف ولهم ثلاثون مسجداً، ولا يكون مقامهم في المدن إلا في الشتاء، وفي سائر العام يكونون في المزارع والبساتين، ولهم فواكه ونعم كثيرة وللخزر جمال فائق وحسن ظاهر، والذي يقع من رقيق الخزر هم أهل الأوثان الذين يستجيزون بيع أولادهم واسترقاق بعضهم بعضاً، وليس لملكهم من طاعتهم إلا الدعوة، ومدار أمرهم على إيران شاه وهو الذي يقود جيوشهم ويملك طاعتهم، وإذا خرجوا في وجهة خرجوا بأسلحة كاملة ودروع حصينة وجواشن محكمة وأعلام رفيعة، ولا يخرج أحد من أهل عسكرهم إلا ومعه عدة أوتاد، طول كل وتد ذراعان، فإذا نزلوا غرز كل واحد منهم بحياله تلك الأوتاد وشدوا إليها الأترسة فيصير حول العسكر في ساعة واحدة جدار من التراس، والغالب على قوتهم الأرز والسمك ولباسهم القراطق والأقبية، ولسان الخزر غير لسان الترك والفرس، وهي لغة لا تشاركها لغة من لغات الأمم، وهم ينتهون في مشتبهات أمورهم إلى عظيمهم المسمى خاقان خزر وهو أجل عندهم قدراً من الملك.
في سواد الكوفة منها أبو مسلم عبد الرحمن بن مسلم صاحب الدعوة العباسية، كان إذا خرج رفع أربعة آلاف أصواتهم بالتكبير وكان بين طرفي موكبه أكثر من فرسخ، وكان قد قتل في أصناف الناس، فقتل في المضرية حتى كاد يفني من بخراسان منها، ثم قتل في ربيعة واليمن ما لا يحصى، ثم قتل في الأعاجم وبيوت الملك والدهاقنة، وقتل في القضاة والفقهاء والعلماء والشعراء وقتل في أوساط الناس، وقتل في المذاربة والأكراد وأهل الجبال ولم يبق جيل من الأمة إلا قتل فيه، وكان قهرماناً لادريس بن معقل العجلي ثم صار ولاؤه لمحمد بن علي، وكان اسمه إبراهيم ويكنى أبا إسحاق فسماه إبراهيم عبد الرحمن وكناه بأبي مسلم فعظم شأنه، وكان يطعم كل يوم مائة شاة وعشر شياه سوى ما يتبع ذلك من الحملان وصنوف الطعام والفواكه، وكان خافض الصوت في كلامه ومحادثته فصيحاً، راوية للشعر، لم ير ضاحكاً ولا مازحاً ولا خجلاً ولا قطوباً ولا عبوساً، سوطه سيفه، قليل الرحمة يقتل أكيله وجليسه وصديقه وذا المنزلة عنده، لم يشب قال بعضهم: ثلاثة عظم شأنهم وجلت أنباؤهم وتقاربت أسنانهم ولم تطل أعمارهم، كلهم مات دون الأربعين: الحجاج بن يوسف وعبد الرحمن بن مسلم والفضل بن سهل. ولما ولي أبو جعفر المنصور اطلع من أبي مسلم على غش له، ولاعب بعض قواده الشطرنج فتوجهت اللعبة عليه ثم ظفر فضر به فيها الغلب فقال:
ذروني ذروني ما قدرت فإنني ... متى ما تهيجوني تميد بكم أرضي
وأنهض في سرد الحديد إليكم ... كتائب سوداً طال ما انتظرت نهضي واستدل بذلك على نيته، وساير عيسى بن موسى في اليوم الذي قدم فيه على المنصور، وكان يثق به وبمودته فأنشد عيسى شعراً أنكره أبو مسلم وهو:
سيفنيك ما أفنى القرون التي خلت ... وما حل في أكباد عاد وجرهم
ومن كان أنأى منك عزاً ومفخراً ... وأنهض بالجيش اللهام العرمرم وقال: أيها الأمير أغدراً مع قرب الضمير بالأمان والعهود والمواثيق، فحلف له عيسى بالطلاق والعتاق أنه ما قصد لما ظن ولا عناه ولا أراده ولكنه شيء جرى على لسانه لم يتعمده، فقال له أبو مسلم: فهذا والله أغلظ له. ولما قدم على المنصور قال له يوم قتله: ما حملك على خلع حلة الوفاء والفخر ولبس رث النفاق والغدر، فقد كان عليك من الأول وسم جمال وصدق ثناء، فقال: يا أمير المؤمنين إن رأيت ألا تكلفني عذراً توجب علي معه ذنباً