وكمل التبريز بالغنائم على ملاحظة من المحصورين بالمهدية وهم مع ذلك متجلدون مواظبون على القتال بصرامة وشدة شكيمة معلنون بالتكذيب بهزيمة يحيى وينوعون السب ويفحشون، وألح الملك الناصر في قتالهم وجمع المجانيق والآلات على جهة واحدة من السور حتى كثر فيهم الموتان والجراحة، وتحققوا بعد ذلك بانهزام يحيى فسقط في أيديهم وطلبوا الأمان فأسعفهم به، ونزل علي بن الغازي صاحب المهدية وهو ابن عم يحيى وأتباعه وشيعته على أن يخلى سبيله ويسلموا البلد، وكان ذلك في التاسع من جمادى الأولى أو في السابع والعشرين منه من سنة اثنتين وستمائة، فكان بين هزيمة تاجرا وببن فتح المهدية شهران وستة وعشرون يوماً.
مدينة مشهورة من مدن الغرب الأوسط على طريق المسيلة من تلمسان، وكانت تاهرت فيما سلف مدينتين كبيرتين إحداهما قديمة والأخرى محدثة، فالقديمة منهما ذات سور على قنة جبل ليس بالعالي وبها ناس وجمل من البرابر ولهم تجارات وبضائع وأسواق عامرة وبأرضها مزارع وضياع جمة وبها من نتاج البراذين والخيل كل شيء حسن، وبها البقر والغنم كثير جداً وكذلك العسل والسمن وسائر غلاتها كثيرة، وبها مياه متدفقة وعيون جارية تدخل أكثر ديارهم ولهم على هذه المياه بساتين وأشجار تحمل ضروباً من الفواكه الحسنة، ولها سور صخري وبها قصبة منيعة مشرفة على سوقها المسماة بالمعصومة.
وتاهرت (?) في سفح جبل يسمى قزول (?) وعلى نهر كبير يأتيها من ناحية الغرب ولها نهر آخر يجري من عيون يجتمع منه شرب أرضها وبساتينها، وسفرجلها لا نظير له حسناً وطعماً وشماً، ولها ثلاثة أبواب: باب الصفا وهو باب الأندلس وباب المنازل وباب المطاحن، وهي شديدة البرد كثيرة الغيوم والثلج، قال بكر بن حماد وكان ثقة مأموناً حافظاً للحديث يصف برد تاهرت:
ما أصعب البرد وريعانه ... وأطرف الشمس بتاهرت
تبدو من الغيم إذا ما بدت ... كأنما تنشر من تحت
فنحن في بحر بلا لجة ... تجري بنا الريح على السمت
نفرح بالشمس إذا ما بدت ... كفرحة الذمي بالسبت ونظر رجل من تاهرت إلى توقد الشمس بالحجاز فقال: احرقي ما شئت فوالله انك بتاهرت لذليلة.
وتاهرت الحديثة (?) في قبليها لواتة وهوارة في قرارات، وبغربيها زواغة وبجوفيها مطماطة وزناتة ومكناسة، وفي شرقيها حصن هو تاهرت القديمة.
وكان صاحب تاهرت ميمون بن عبد الرحمن بن رستم بن بهرام من ولد سابور ذي الأكتاف الفارسي، وكان ميمون اباضياً وكان يسلم عليه بالخلافة، وتعاقب مملكة تاهرت بنو ميمون وبنو إخوته إسماعيل وعبد الرحمن بن الرسمية إلى سنة ست وتسعين ومائتين، فوصل أبو عبد الله الشيعي إلى تاهرت فدخلها بالأمان ثم قتل ممن فيها من الرسمية عدداً كثيراً وبعث برؤوسهم إلى أخيه أبي العباس وطيف بها في القيروان ونصبت على باب رقادة، وملك بنو رستم تاهرت مائة وثلاثين سنة. وكان عبد الرحمن بن رستم خليفة لأبي الخطاب (?) عبد الأعلى بن السمح بن عبيد بن حرملة على إفريقية، فلما قتل محمد بن الأشعث الخزاعي أبا الخطاب في صفر سنة أربع وأربعين ومائة هرب عبد الرحمن بأهله وما خف من ماله وترك القيروان، فاجتمعت إليه الاباضية واتفقوا على تقديمه وبنيان مدينة تجمعهم، فنزلوا موضع تاهرت اليوم وهو غيضة أشبة، ونزل عبد الرحمن منه موضعاً مربعاً لا شعراء فيه وأدركتهم صلاة الجمعة فصلى بهم هناك، فلما انقضت الصلاة ثارت صيحة شديدة على أسد ظهر في الشعراء فأخذ حياً وأتي به إلى الموضع الذي صلوا فيه وقتل هناك، فقال عبد الرحمن بن رستم: هذا بلد لا يفارقه سفك دم ولا حرب أبداً، وانتدبوا من تلك الساعة فبنوا في ذلك الموضع مسجداً وقطعوا خشبه من تلك الشعراء فهو كذلك إلى اليوم، وهو مسجد جامعها وهو من أربع بلاطات.
وبتاهرت أسواق عامرة وحمامات كثيرة يسمى منها نحو