وَقد احْتج بِهَذِهِ الْآيَة جمَاعَة مِنْهُم عبد الله بن عَبَّاس على عَذَاب الْقَبْر وَفِي الِاحْتِجَاج بهَا شَيْء لِأَن هَذَا عَذَاب فِي الدُّنْيَا يستدعى بِهِ رجوعهم عَن الْكفْر وَلم يكن هَذَا مَا يخفي على حبر الْأمة وترجمان الْقُرْآن لَكِن من فقهه فِي الْقُرْآن ودقة فهمه فِيهِ فهم مِنْهَا عَذَاب الْقَبْر فانه سُبْحَانَهُ أخبر أَن لَهُ فيهم عذابين أدنى وأكبر فَأخْبر أَنه يذيقهم بعض الْأَدْنَى ليرجعوا فَدلَّ على أَنه بقى لَهُم من الْأَدْنَى بَقِيَّة يُعَذبُونَ بهَا بعد عَذَاب الدُّنْيَا وَلِهَذَا قَالَ من الْعَذَاب الْأَدْنَى وَلم يقل ولنذيقنهم الْعَذَاب الْأَدْنَى فَتَأَمّله
وَهَذَا نَظِير قَول النَّبِي فَيفتح لَهُ طَاقَة إِلَى النَّار فيأتيه من حرهَا وسمومها وَلم يقل فيأتيه حرهَا وسمومها فَإِن الذى وصل إِلَيْهِ بعض ذَلِك وبقى لَهُ أَكْثَره والذى ذاقه أَعدَاء الله فِي الدُّنْيَا بعض الْعَذَاب وبقى لَهُم مَا هُوَ أعظم مِنْهُ
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى فلولا إِذا بلغت الْحُلْقُوم وَأَنْتُم حِينَئِذٍ تنْظرُون وَنحن أقرب إِلَيْهِ مِنْكُم وَلَكِن لَا تبصرون فلولا إِن كُنْتُم غير مدينين ترجعونها إِن كُنْتُم صَادِقين فَأَما إِن كَانَ من المقربين فَروح وَرَيْحَان وجنة نعيم وَأما إِن كَانَ من أَصْحَاب الْيَمين فسلام لَك من أَصْحَاب الْيَمين وَأما إِن كَانَ من المكذبين الضَّالّين فَنزل من حميم وتصلية جحيم إِن هَذَا لَهو الْحق الْيَقِين فسبح باسم رَبك الْعَظِيم فَذكر هَاهُنَا أَحْكَام الْأَرْوَاح عِنْد الْمَوْت وَذكر فِي أول السُّورَة أَحْكَامهَا يَوْم الْمعَاد الْأَكْبَر وَقدم ذَلِك على هَذَا تَقْدِيم الْغَايَة للعناية إِن هى أهم وَأولى بِالذكر وجعلهم عِنْد الْمَوْت ثَلَاثَة أَقسَام كَمَا جعلهم فِي الْآخِرَة ثَلَاثَة أَقسَام
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعى إِلَى بك راضية مرضية فادخلى فِي عبادى وادخلى جنتى وَقد اخْتلف السّلف مَتى يُقَال لَهَا ذَلِك فَقَالَت طَائِفَة يُقَال لَهَا عِنْد الْمَوْت وَظَاهر اللَّفْظ مَعَ هَؤُلَاءِ فانه خطاب للنَّفس الَّتِي قد تجردت عَن الْبدن وَخرجت مِنْهُ وَقد فسر ذَلِك النَّبِي بقوله فِي حَدِيث الْبَراء وَغَيره فَيُقَال لَهَا اخرجى راضية مرضيا عَنْك وسيأتى تَمام تَقْرِير هَذَا فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي يذكر فِيهَا مُسْتَقر الْأَرْوَاح فِي البرزخ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقَوله تَعَالَى {فادخلي فِي عبَادي} مُطَابق لقَوْله اللَّهُمَّ الرفيق الْأَعْلَى
وَأَنت إِذا تَأَمَّلت أَحَادِيث عَذَاب الْقَبْر ونعيمه وَجدتهَا تَفْصِيلًا وتفسيرا لما دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق